بوش.. الفنان..

بوش.. الفنان..

يظن الرجل بحق أنه وجد الوصفة السحرية للغفران والخلاص، ولا ندري من أسرى له بهذه النصيحة: لا داعي لإضاعة الوقت بين دول المجاعات وولايات الموت البعيدة، لا داعي للابتسام أمام الكاميرات أمام فراش الموت لطفل صغير، لا داعي لاغتصاب مناصب أحد سفراء «النوايا الحسنة» أو استلام إحدى شهادات الدكتوراه «الفخرية»، يعلم الكثيرون أنك نصاب و قاتل، ستحتاج إلى الكثير من الجهد لتبييض صفحاتك السوداء بعد تقاعدك من مكتبك في البيت الأبيض، ربما قيل لك أن فن الرسم الحساس والراقي قد يسحر القلوب من حولك، لكن يبدو أنك أضفت إلى قائمة الاتهامات الخاصة بك تهمة جديدة، قد تحامقت ولطخت نفسك بالأصبغة بدلا من الدماء التي عهدناها عليك..

بدأت القصة العام الماضي، قام أحد الصحفيين بتسريب  «لوحات» رسمها الرئيس الأمريكي الأسبق «جورج بوش» الابن، لوحتين مميزتين بالفعل لرسم يمثل الرئيس نفسه، يبدو الرجل في إحداها عارياً في لقطة خلفية بجوار صنبور الحمام وهو يتمتع بالمياه النظيفة، ربما لا يعلم بأن دماء مئات الآلاف من العراقيين لا تزول بالمياه، على كل حال نشرت اللوحتان على مواقع التواصل الاجتماعي وأصبح الجميع يعلم بهواية الرئيس السابق الجديدة، توالت الأخبار لاحقاً لتتحدث عن الاستعانة بمدرب خاص لتحسين «ستايل» بوش الابن الفني، كانت النتائج متوقعة، لن يقدر أي إنسان مهما امتلك من المهارة الفنية على تحسين ضربات الفرشاة الجلفة لجورج بوش، لا يستطيع أحد أن يزرع الموهبة في عقل أي كان، لن يستطيع انتزاع أي جمال من الفراغ..

خربشات غبية..

اليوم، قرر العم بوش أن يفتتح معرضاً خاصاً بلوحاته، قام بتجميع دزينتين من أجمل أعماله وعلقها على جدران إحدى الصالات في «مكتبته الرئاسية»، تم افتتاح هذا المعرض العظيم الأسبوع الماضي تحت عنوان: «فن القيادة – دبلوماسية الرئيس الشخصية»!! ، وكالعادة، تم الإيعاز لبعض القنوات الخاصة بنقل الحدث، خصصت ساعات لتعريف الجماهير على إنجازات الرئيس الفنية الجديدة، قامت ابنته الكبرى بإجراء مقابلة «عفوية» مع والدها في أحد البرامج الحوارية الصباحية، كان الحديث «ودياً» و«دافئاً»، تحدث فيها بوش عن رؤيته الخاصة بكل لوحة من اللوحات الأربع والعشرين، مثلت كل لوحة وجه أحد القادة السياسيين الذي عاصروا فترة حكم بوش الابن، توجد لوحات لرؤساء الدول الكبرى، سفراء، وزراء، قادة أحزاب.. تحلق الجميع حول صورة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يبدو أن بوش قد استغرق الكثير وهو يحاول تحديد المساحات المناسبة من الألوان والظلال، لكنه فشل في ذلك فشلا ذريعاً، بدت اللوحة وكأنها رسمت بالطبشور من قبل طفل في المرحلة الابتدائية، كان رأس الرئيس الروسي مائلاً ومشوه المقاييس إلى درجة لا يمكن تجاهلها، لم تلاحظ أعين الحضور ذلك عندما صفقت للرئيس الذي لم تفارقه الابتسامة، لكن الصحف العالمية لم ترحمه في صبيحة اليوم التالي، كان النقد لاذعاً، لم يكن حتى من الضروري الاستعانة بآراء المختصين، كانت الصورة أبلغ من أي كلام، ضربات غير متجانسة لفرشاة مترنحة جعلت من الصعب معرفة أين ينتهي الوجه وأين تبدأ الرقبة!!

ذنوب لا تغتفر..

هل ستفيد هذه المواهب الجديدة في تحسين صورة الرجل المسؤول عن مئات الآلاف من الضحايا؟ عن أحد «أغبى» الرؤساء الأمريكيين الذي توالوا على هذا المنصب كما وصفته صحيفة الغارديان البريطانية، لم الإصرار إلى العودة تحت الأضواء؟ وبهذه الطريقة؟! كان الأجدى به أن يسعى لدفن نفسه بعد الحماقات التي ارتكبها في داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها على مر سنين ولايته الرئاسية.

يظن البعض أنه سيحصد القليل من التعاطف كما تجري العادة في أمريكا، لقد طوع المارد الإعلامي عقول الناس وميزهم بذاكرة قصيرة الأمد تستسيغ الشخصيات التي تحمل الكثير من التناقض بعد أن تتم إعادة طرحها بأوجه جديدة تتناقض مع الصورة النمطية التي اعتاد عليها الناس، كما حدث أيام الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، لقد ساهمت حفلاته الخيرية الخاصة ومقابلاته التلفزيونية القليلة في تلميع صورة الرجل الذي قذف آلاف الشباب الامريكي في حرب فيتنام إلى حد ما، لكن لوحات بوش الابن لن تلق الترحيب ذاته ، سيتعاطف الناس معها كما يثني الأهل على «خربشات» صغيرهم الأولى، في أحسن تقدير، ذنوب الرجل لا تغتفر، مهما بلغ من «الوداعة» أمام مرسمه الصغير..