«تركي في ايطاليا» لروسيني: الفراغ الذي أنتج تحفة موسيقية
إبراهيم العريس إبراهيم العريس

«تركي في ايطاليا» لروسيني: الفراغ الذي أنتج تحفة موسيقية

في آذار (مارس) من العام 1860 زار الموسيقي الالماني ريتشارد فاغنر زميله الايطالي جاكينو روسيني في باريس حيث كان هذا الاخير يقيم ممضياً آخر أيامه بعد انتقاله من ايطاليا، وطنه، الى فرنسا التي تبنته واعترفت به اكثر كثيراً مما اعترف به الإيطاليون. حين زار فاغنر روسيني، كان يزوره كمعلم كبير من معلمي فن الاوبرا، وكمثال يحتذى في الاخلاص للفن وفن الموسيقى بشكل خاص.

من هنا، فإن فاغنر الذي كان يقول دائماً ان اعظم حرية ينالها مؤلف الاوبرا، تكمن في ان يكتب نصوصه، او على الاقل يختارها بنفسه، معتبراً ان هذه حال روسيني، فاغنر اذاً كانت مفاجأته كبيرة حين سمع هذا يقول له حرفياً، في معرض تبريره لبعض اعماله الضعيفة: «الحقيقة انني ابداً لم استمتع بأية حرية في اختيار النصوص التي بنيت عليها بعض الاوبرات التي كتبتها... ذلك ان هذه النصوص كانت تفرض علي فرضاً من جانب وكلاء الاعمال. وآه كم كان كبيراً عدد المرات التي لم أكن أتلقى فيها سوى جزء يسير من السيناريو، ويُطلب إليّ أن ابدأ التلحين فوراً، من دون حتى ان يروي لي احد ماذا سيحدث بعد ذلك! كان الأمر بالنسبة إليّ اضطرارياً لأن أطعم والدي ووالدتي وجدتي! وهكذا، كنت كالبدوي، اتنقل من مدينة الى مدينة وأكتب ثلاث او اربع اوبرات في العام الواحد. وصدقني يا عزيزي اذا قلت لك ان هذا كله لم يوفر لي ابداً، ما يمكنني من ان اعيش عيش السادة الكبار». هذا الكلام كان فاغنر نفسه هو الذي نقله عن روسيني، وجاء ذكره في نص كتبه المؤرخ ميكوتي في كتاب عنوانه «زيارة فاغنر الى روسيني». طبعاً، كما قلنا، كانت مفاجأة فاغنر كبيرة. وهنا تكمن مفاجأة اخرى... فكيف يا ترى فوجئ هذا الموسيقي الكبير؟ ألم يكن، وهو الضليع في الشعر والرواية وفن الاوبرا، وعلم الموسيقى في شكل عام، قد لاحظ تهافت الكثير من أعمال زميله؟ وألم يكن قد لاحظ ذلك التفاوت الكبير بين موسيقى يكتبها روسيني فتبدو خارقة تنتج منها اعمال اوبرالية كبيرة وبين مواضع هذه الاوبرات؟ الحقيقة ان هذا الواقع يقودنا دائماً الى ذلك الموضوع المثير للسجال: هل يمكن فناً كبيراً ان يطلع من مقدمات تافهة؟ بالنسبة الى فاغنر كان هذا مستحيلاً. والدليل اعماله نفسها: اوبرات كبيرة بموسيقى كبيرة، انطلقت من نصوص شعرية متميزة. بيد ان روسيني، اكد النظرة المقابلة: بلى... يمكن فناناً حقيقياً ان ينطلق من نصوص ساذجة، ليحقق اعمالاً كبيرة. والدليل على هذا بعض اعماله!



فالحقيقة اننا اذا اخذنا، مثلاً، اوبرا «تركي في ايطاليا» لروسيني (1814) وحاولنا ان نفهم موضوع هذه الاوبرا، سنجدنا امام عمل سخيف جداً، من النوع الذي يمكن ان يقدمه أي فريق مسرحي في مسرح شعبي، امام جمهور لا يهمه، لا الحبكة ولا الموضوع، بل تلاحق الاحداث. ومع هذا فلنجرب ان نستمع الى مقدمة هذه الاوبرا... بل حتى الى كلّ موسيقاها من ألفها الى يائها... عند ذلك سنجدنا امام موسيقى كبيرة، مما يؤكد ما قاله روسيني لفاغنر.



والمؤكد ان «تركي في ايطاليا» عمل ما كان له ان يوجد، وما كان لروسيني ان يكتبه لولا النجاح الكبير الذي كان حققه قبل عام من ذلك عمل كبير له هو «ايطالية في الجزائر». فروسيني كان وضع هذه الاوبرا في العام 1813 - ايضاً بناء لطلب من وكيله - ولم يهتم بالنصّ أو بالحبكة ابداً. بالنسبة اليه كانت هناك فرصة لتلحين اوبرا يحقق فيها بعض رغباته الموسيقية بأن يكتب مثلاً ألحاناً «متوسطية» أي تجمع قواسم مشتركة بين ضفتي المتوسط. وهو فعل ذلك حقاً، مما جعل ألحان «ايطالية في الجزائر» مزيجاً خلاقاً من روحي الشرق والغرب، تتدفق عبره حيوية هذا البحر المتوسط، في اعلان صارخ وجدّي عن وحدة الفنون من حول المياه الزرقاء الدافئة الطيبة. وقد كان من شأن النجاح الكبير، الفني ولكن السياسي ايضاً، الذي حققته «ايطالية في الجزائر» ان اندفع الوكلاء الفنيون راغبين في الاستفادة من النجاح، عبر الطلب الى روسيني ان يعيد الكرة، ولكن هذه المرة عبر موضوع معاكس: لن نأخذ الاوروبية الى «الشرق»، بل سنأتي بالشرق الى اوروبا. وبعد هذا، هل يهم حقاً ما سيكون عليه الموضوع؟ وقيمة النصوص؟ وصدقية الحبكة؟ وتطور الشخصيات؟



على الاطلاق... وهكذا كتب فيلتشي روماني النص خلال اسابيع قليلة. وأُعطي النص الى روسيني، لينجزه هو الآخر بعد اسابيع قليلة، ليقدم العمل في آب (اغسطس) من العام 1814، في وقت كان الجمهور العريض لا يزال متلهفاً لمشاهدة «ايطالية في الجزائر»... وهذا الجمهور هو نفسه الذي كان في ذلك الحين يؤمن النجاح لكل عمل فني يحوي شخصيات شرقية او مسلمة... لأن الأمر كان على الموضة، بعد سنوات قليلة من حملة نابليون على مصر، وبدء اكتشاف «الشرق» على الطريقة الغربية.



و «الشرق» هنا في هذا العمل الملوّن الصاخب تمثله سعيدة، البوهيمية التي تعيش الآن في نابولي بعد ان فرّت من حريم تركي، كما يمثله سليم، الأمير التركي الذي كان في الاصل صاحب الحريم الذي هربت منه سعيدة، وها هو الآن يقيم لفترة في نابولي، حيث ارتبط بعلاقة مع سيدة ايطالية حسناء هي فيوريلا... الشخصية النسائية الرئيسة في الاوبرا. وهنا بعد ان ذكرنا هذه الشخصيات الثلاث التي تمثل لبّ هذه الحكاية، هل سيصعب علينا، حقاً، تصوّر بقية الاحداث، وكيف ستبدأ هذه الاوبرا وكيف ستنتهي؟ حسناً... سنسردها على اية حال: تبدأ اوبرا «تركي في ايطاليا»، في معسكر للغجر البوهيميين في نابولي، حيث يطالعنا منذ البداية الشاعر بروسدو سيمو، الذي يجول في المكان بحثاً عن مصدر الهام، يعطيه فكرة ينطلق منها لكتابة كوميديا جديدة كُلف كتابتها. وهو يلتقي هنا في المعسكر الثري جيرونيو، الذي سرعان ما سيتبين له ان البوهيمية سعيدة قد أسرت إليه بأن زوجته الحسناء فيوريلا تخونه... وبالفعل ما ان عاد جيرونيو الى منزله ذات مساء حتى وجد زوجته مع الأمير التركي سليم. واذ لا تكتفي سعيدة بما كشفته وما يحدث... ها هي الآن تتنكر في زي فيوريلا لتنتظر سليم وقد قررت بينها وبين نفسها ان تعقّد حياة الجميع. ولكن فيما سعيدة على تلك الحال، تصل فيوريلا الحقيقية الى المكان برفقة زوجها جيرونيو... ويشتبك الجميع مع الجميع كل يتهم الآخر بالمخادعة والكذب. لاحقاً يخطط سليم وعشيقته فيوريلا للهرب من المدينة معاً، مستغلين اقامة حفل تنكري... غير ان الشاعر بروسدو سيمو، اذ استطاب اللعبة ورأى ان مزيداً من التعقيد سيخدم مصادر وحيه، يعرف كل شيء عن مخطط العشيقين، فلا يكون منه إلا ان يخبر الزوج المخدوع بالأمر... فيما تصل سعيدة بدورها الى الحفل، وقد راحت تتنكر حيناً موحية بأنها سليم، وحيناً موحية بأنها فيوريلا. وتتعقد اللعبة ويسود العراك بين الجميع من جديد، وتتوالى «الخبطات المسرحية»، حتى اللحظة التي يكون فيها الكل قد وصلوا الى المكان عينه وراحت تنكشف كل خيوط اللعبة التي تشارك اصلاً، في حياكتها سعيدة وبروسدو سيمو. وهنا إزاء انكشاف كل شيء، نشهد قرب مياه البحر مصالحة عامة وسط الموسيقى والغناء، ويستعيد سليم سعيدة، ويعود الزوج الى زوجته وقد نسيا كل ما حدث. اما الشاعر، فإنه بدوره يذهب سعيداً: لقد اكتمل الموضوع الذي كان يبحث عنه، وصار في وسعه الآن ان يكتب مسرحيته.



اذاً، انطلاقاً من هذه الحبكة التي لا معنى لها على الاطلاق، وكان من شأنها ألا تجتذب أحداً لو قدمت - كما يليق بها - على مسرح البوليفار، تمكن روسيني من ان يكتب اأحاناً، لا تزال حتى اليوم حية وقوية - ولا سيما منها لحن المقدمة - تبرر وحدها، من ون أي شيء آخر، النجاح الذي سيكون لهذا العمل. وهكذا كان دأب هذا الفنان، الذي كتب طوال حياته التي امتدت ستة وسبعين عاماً (1792-1868) عشرات الاوبرات: يصنع شيئاً من لا شيء همّه الاساس ان يعيش وأن يكتب، خلال عيشه، أعمالاً موسيقية كبيرة. ومن بين ابرز هذه الاعمال، كما نعرف «حلاق اشبيليا» و «سندريلا» و «فتاة البحيرة» (عن قصيدة والتر سكوت) و «قورش في بابل» و «ويليام تل» و «سلم من حرير» و «سميراميس».

 


المصدر: الحياة