راهنية كارل ماركس
داود تلحمي داود تلحمي

راهنية كارل ماركس

كثيرة هي الكتابات والإشارات التي برزت في السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة، والتي تذهب باتجاه تأكيد عودة الاهتمام الواسع في مناطق العالم المختلفة بفكر كارل ماركس، على ضوء تأزم الأوضاع الاقتصادية في أنحاء العالم بفعل اندلاع الأزمة الرأسمالية العالمية الجديدة منذ العامين 2007- 2008.

فمنذ الأشهر الأولى للاندلاع الصاخب للأزمة، شهدت عدة دول، بما في ذلك ألمانيا، موطن كارل ماركس وبلد منشئه، طلباً متزايداً على كتاباته ومؤلفاته، الاقتصادية منها وغير الاقتصادية، بما في ذلك كتابه الأساسي «رأس المال». وإذا كان الاهتمام بالجانب الاقتصادي السياسي لفكر ماركس مفهوماً نظراً لكونه مجال الإسهام الأبرز الذي قدمه هذا المفكر والعالِم المتميز للبشرية في أوج الثورة الصناعية الكبرى التي كانت تشهدها بريطانيا ودول أوروبا الأخرى في أواسط القرن التاسع عشر، فإن الاهتمام بالجانب الفلسفي لإسهامات ماركس يعدّ أمراً مثيراً بعض الشيء. خاصة وأن ماركس نفسه لم يكن ينظر إلى مجال الفلسفة نظرة إيجابية، ويعتبر، هو الذي بدأ بالكتابة في هذا المجال تحديداً، إن الفلسفة بمفهومها المتوارث قد تم تجاوزها وإن الواقع يفرض التعاطي مع الشأن البشري من منطلقات أكثر التصاقاً بالواقع الفعلي للناس، وأكثر اندفاعاً للعمل على تغيير هذا الواقع.

لكن ذلك لم يمنع العديد من الفلاسفة المعاصرين من الاهتمام الكبير في السنوات الأخيرة بفكر كارل ماركس وإسهاماته الفلسفية وغير الفلسفية، التي ما زالت، بنظر هؤلاء، تحتفظ براهنية عالية، بالرغم من مضي أكثر من قرن وثلاثة عقود على رحيل ماركس، وبالرغم من التطور الهائل الذي شهده العالم في شتى المجالات، بما في ذلك في مجالات العلم والتقنية ومجمل المعرفة البشرية، خلال هذه الفترة الزمنية، وبالرغم من الصدمة الكبيرة التي أحدثها انهيار تجربة التحول الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي، وبلدان أخرى خاضت تجارب شبيهة، قبل أقل من ربع قرن من زمننا الراهن.

هذا ما يقوله أيضاً الأستاذ الجامعي المختص بالشأن الفلسفي سانتياغو ثابالا، وهو إسباني يعمل في جامعة برثلونة (برشلونة)، عاصمة إقليم كاتالونيا، في مقال نشره مؤخراً بعنوان «لماذا هذا العدد الكبير من الفلاسفة الشيوعيين؟». وهو مقال لفت انتباهي إليه الصديق المقدسي المقيم في الولايات المتحدة والمتابع لشبكة الإنترنت وقضايا التحرر واليسار، والذي سبق ولفت انتباهي لمقالة ناشط يساري أميركي مخضرم بشأن حركات «احتلوا» في الولايات المتحدة وعلاقتها بتجارب الحركات الشبابية والشعبية الواسعة التي شهدها ذلك البلد في الستينيات الماضية، وهو ما تناولتُه في مقالة سابقة.

يقول ثابالا في مقاله: «بعد الأزمة الاقتصادية العالمية في خريف 2008، عادت طبعات جديدة من نصوص ماركس إلى المكتبات، مترافقة مع عدد كبير من التقديمات والسير الحياتية والتفسيرات الجديدة للمعلّم الألماني. ومع أن هذا الإحياء كان دون شك بسبب الانهيارات المالية التي سمحت بها حكوماتنا الديمقراطية، إلا إن «عودة» ماركس لدى الفلاسفة ليست نتيجة لها بهذه البساطة كما يعتقد كثيرون. ذلك إن الفيلسوف الفرنسي الكبير جاك ديريدا كان قد توقع منذ مطلع التسعينيات هذه العودة كرد على زعم فرانسيس فوكوياما بـ»انتصار الليبرالية الجديدة» في «نهاية التاريخ».»

ويشير ثابالا إلى أن حركات «احتلوا» وما يُطلق عليه تعبير «الربيع العربي» تؤكد الحاجة إلى بداية جديدة تتجاوز الفرضيات والوقائع الاقتصادية، والليبرالية الجديدة، والدولية التي نعيشها. وتحدث ثابالا عن استخدام عدد كبير من الفلاسفة في حديثهم عن هذه البداية الجديدة لتعبيرات شيوعية كبديل جذري للوضع الحالي. ويشير إلى العديد من المؤتمرات العلمية الناجحة التي انعقدت في عدد من بلدان العالم والتي شارك فيها الآلاف من الأكاديميين والطلاب والناشطين، وإلى الاستقبال الجيد للعديد من الكتب الحديثة لعدد من المفكرين الذين يعتبرون الفكر الشيوعي في مركز بحثهم السياسي، بمعزل عن تنوع مفاهيمهم لكيفية الانتماء والالتزام بهذا الفكر، كما جاء في المقال.

ويضيف الأكاديمي الإسباني: «من الواضح، في هذه المؤتمرات وفي هذه الكتب، أن الشيوعية لم يتم تقديمها كبرنامج للأحزاب السياسية لتكرار أنظمة تاريخية سابقة، وإنما كرد وجودي على الوضع الليبرالي الجديد الراهن على الصعيد الكوني». ويقول: «إن الترابط بين الوجود والفلسفة هو أمر مركزي ليس فقط في التقاليد الفلسفية، وإنما أيضاً في مجال السياسة بحكم مسؤوليتها عن الوضع الحياتي الوجودي للبشر. ففي نهاية المطاف، فإن السياسة لا تقتصر على خدمة الحياة الإدارية اليومية وإنما من المفترض أن توفر دليلاً يُعتمد عليه لكل فرد لممارسة وجوده المتكامل.»

ويتناول الكاتب التأثيرات الأخيرة لليبرالية الجديدة، التي كان قد تم تلمسُّها قبل الأزمة المالية الراهنة: فالفروقات في المستويات المعيشية المادية لم تكن قط بهذا الحجم، ومدن الصفيح والعشوائيات ينمو سكانها بمعدل 25 مليون إنسان في السنة، والاستهلاك المنهجي للمصادر الطبيعية في الكرة الأرضية يقود إلى نتائج مدمرة على البيئة في أنحاء العالم. وبسبب ذلك كله، فقد تنبأ تقرير حديث لوزارة الدفاع البريطانية، وفق ما أورده الكاتب، ليس فقط بانبعاث «الأيديولوجيات المناهضة للرأسمالية، والمرتبطة أحياناً بحركات دينية أو أناركية أو نيهيليستية (عدمية)، وإنما أيضاً الشعبوية وإعادة إحياء الماركسية».

ويقول إنه بينما كانت فكرة الشيوعية مرتبطة في تجارب الماضي بمركزية دور الدولة في كل المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وهي مستمرة كذلك في بعض التجارب التي استمرت في شرق آسيا، فإن المفهوم الراهن للشيوعية يرتبط بالمجال اللا دولتي، حيث المساواة في الفرص وحيث المجال المفتوح للحركات السياسية غير الحكومية وغير الدولتية، وحيث «أشكال التنظيم الذاتي» اللا دولتي، مشيراً هنا إلى التجارب الجارية في بعض بلدان أميركا اللاتينية. ويركز هنا على أهمية اللامركزية في نظام الدولة البيروقراطي لإتاحة المجال أمام المجالس المحلية والميدانية المستقلة لتطوير المشاركة الشعبية على مختلف المستويات.

طبعاً، هذا الحديث لا بد أن يثير اهتمام كل المعنيين بشأن إعادة إحياء دور الفكر اليساري في مختلف مناطق العالم، بما في ذلك في منطقتنا العربية، التي عانت لفترة طويلة، ليس فقط من سيادة الأنظمة البيروقراطية المستبدة وتغييب دور الشعب وقطاعاته المختلفة، وإنما من القمع الشديد الذي كان، ولا يزال، يسعى إلى التغطية على استمرار إعادة إنتاج التخلف ومفاقمة الفقر والفاقة في العديد من دول المنطقة، وتزايد الفجوة الرهيبة بين القلة الثرية، والفاسدة في معظم الأحيان، والأغلبية الواسعة المحرومة، بالرغم من توفر ثروات طبيعية وإمكانيات واسعة في أنحاء هذه المنطقة. علاوة على التبعية المهينة لدول المركز الرأسمالي، وخاصة الولايات المتحدة، التي كانت الأنظمة الحاكمة ترعاها وتسعى الى ضمان استمرارها.

وليس الأمر المطروح هو السعي لإيجاد حلول سحرية للمآزق الراهنة، أو بدائل تغيّر الواقع بين ليلة وضحاها. فذلك ليس طبعاً بالأمر الممكن. ولكن، ما يهمنا في منطقتنا هو الانتباه إلى ضرورة عدم تكرار المآسي التي شهدتها بعض البلدان التي أطاحت في العقود القليلة الماضية بأنظمة بيروقراطية استبدادية، رفع بعضها راية الاشتراكية، ولكنها كلها كانت تغيّب دور المواطنين وقطاعاتهم الواسعة في عملية البناء والتطوير، بحيث تحولت طواقم الحكم والإدارة هناك إلى هياكل معزولة عن قاعدتها الشعبية. ففي معظم هذه البلدان، تمت الإطاحة بالأنظمة القديمة واستبدالها بأنظمة ينتشر فيها الفساد على نطاق واسع ومقونن وتسود المافيات المنظمة، مما فتح المجال أمام نشوء أسوأ النظم الاستغلالية، بحيث تفاقمت الأوضاع المعيشية لغالبية السكان وزادت الفوارق الهائلة بين مداخيل المواطنين ومستويات معيشتهم.

وبإمكاننا، خاصةً في بلدان الثورات العربية التي شقت طريقها، أن نوجه الأنظار نحو نماذج أفضل للاستفادة من تجاربها الراهنة، تتمثل بشكل خاص في تلك الجارية بعدد من بلدان أميركا اللاتينية، وهي القارة التي تنتمي إلى  «العالم الثالث» نفسه الذي تنتمي منطقتنا إليه. وهي تجارب غنية ومفيدة، سواء في مجال بلورة أشكال الديمقراطية الشعبية الحقيقية الممارسة أو في مجال تأمين درجات متنامية من العدالة الاجتماعية الفعلية، وليس تلك التي يتم الحديث عنها للاستهلاك السياسي في المواسم الانتخابية.