الزمان في نص الروائي السوداني الطيب صالح (2-2)
يكتب الأستاذ حسن أبشر الطيب في مقال منشور تحت عنوان في الهجرة إلى الطيب صالح: إن العمل الإبداعي ينبني في شكله وفي مضمونه على درجة كبيرة من الإدراك والفهم المتكامل للظاهرة التي يعنى بها، وتلك حالة لا تتأتى إلا بالاستئناس بها، وبالتفاعل بما تنطوي عليه من ثراء.
ومن هنا يبرز إلى موقع الصدارة أثر البيئة السودانية الريفية في أعمال الطيب صالح. فهو يتمثلها في معظم المواقف شكلاً وموضوعاً. ولعل ذلك يعود إلى ثلاثة أسباب رئيسة: أولها تلك الذكريات الدافئة الحميمة التي التصقت بذاكرته عن سنوات طفولته وصباه الباكر التي نعم فيها بالحياة في قريته تلك الوادعة الهانئة بين أحبابه وأترابه. قرية تماثل ود حامد في الشكل والجوهر. وثانياً: إن غربته لسنوات طوال قد عمقت في ذاته هذا الالتصاق الحميم ببيئته وكشفت اعتزازه بها لانتمائه الصادق لها ولما رأى من تناقضات لا تماثل طبعه وذوقه في بيئات أخرى. وثالثاً: إن غربته قد منحته الفرصة للنظر من بُعد بغية استقراء واستجلاء دقائق الحياة في بيئته تلك البريئة الوارفة الظليلة بعطائها الوافر ومواطنيها الطيبين.كلام الأستاذ حسن هنا ينطبق أيضاً و بشكل مذهل على أدب يحيى حقي وحسيب كيالي. هذه القامات الأدبية الباسقة تشترك في هم واحد يتجلى على حد تعبير الطيب صالح في خلق شخصيات ملحمية في سرد قصصي وروائي مُدهش. وقد زعم في عدة مناسبات -وعساه يكون زعماً مقبولاً- أنه حوّل شخصيات المنطقة التي عاش فيها إلى شخصيات ميثولوجية ملحمية على غرار شخصيات هوميروس -لأننا كما نعلم شخصيات هوميروس كانت شخصيات عادية كانوا رعاة ومزارعين في بلاد اليونان- ولم يجد الطيب صالح غضاضة تمنعه من فعل ذلك، أي تحويل شخصياته إلى شخصيات ملحمية على غرار الشخصيات التي عرفها في شمال السودان وإن كان من عرفهم شخصيات عادية. وفي هذا السياق قال حسيب كيالي في أكثر من لقاء صحفي: إن الكثير من شخصيات قصصه وحكاياته والتي رسم ملامحها الشعبية بصدق شديد موجودة في بيئة مدينة إدلب وأريافها. ولعل شخصية التوم وسعيد المجنون -مجنون إدلب الشهير- من تلك الشخصيات البسيطة والتي تحولت في نص حسيب كيالي إلى شخصيات ملحمية على غرار شخصيات هوميروس اليوناني.
ملاحظتان قيمتان لا بد من التوقف عندها في أعمال الروائي السوداني الطيب صالح الملاحظة الأولى: مسرح الأحداث لكل أعمال الطيب صالح الروائية قرية (ود حامد) التي تتمثل فيها ملامح القرى الساكنة على شاطئ النيل في الجزء الشمالي من السودان. هذه القرية القصية النائية قدمت للطيب صالح شخصيات مبهرة نابضة بالحياة. الزين في رواية عرس الزين، محجوب سيف الدين، الطريفي ولد بكري، ود الريس، بت محجوب، عبد الحفيظ ود بصير، الطاهر ود الرواسي، سعيد البوم، محيميد، فطومة، مريود وغيرهم في رواية «بندر شاه» بجزئيها «ضو البيت» و«مريود»، ومصطفى سعيد في «موسم الهجرة إلى الشمال». وأبادر إلى القول بأن هذه الشخصيات التي رسم ملامحها الطيب صالح بروية وإتقان تتجول في المكان والزمان الروائي تنمو وتتجدد. وهذا يقودنا إلى الملاحظة الثانية: إن الشخصيات في أعمال الطيب صالح تعيش الزمكان في جميع أعماله وهاهو سعيد البوم في رواية عرس الزين يعود للظهور في رواية بندر شاه في شخصية سعيد عشا البايتات. ولقد تحدث سعيد في مرحلتين مختلفتين من عمره بلسانه وفق زمانه ومكانه. يمتلك الطيب صالح في جميع أعماله رؤية واستبصاراً فنياً مدهشاً مما أهله ليركب ناصية القول بقدرة إبداعية مذهلة وهذا ما يلمسه كل من قرأ أعماله.