موت طارئ
يهتزّ مكتبها قبل وصول صدى الصوت، تبتعد عن زجاج النافذة، بعد ارتجاجه ومحاولته ولوج الغرفة.. تحاور الخوف، لكن ما يخيفها وقد ينجح في قتلها فعلاً هو الضجر، ضجر اللاحلم، والموت الغبي الذي ينفرها بعبثه، تخاف في ليالي صراخ القذائف والموت من هذا القتل المزاجي، رغم قناعتها كل صباح بأنها مجرد رقم قد يكون بشرياً، لكنها تريد لجنازتها المملة قليلاً من الترتيب الذي روّضته في حياتها.. يزداد الارتجاج وربما يقترب..
يُفتح باب إحدى الخزن، ليَفُرَّ غبار اعتقلته الأضابير طويلاً، «اللمبة» المتدلية مثل حية لا تتقن التمويه، تترنح نحو الأسفل.. تنفرد الصورة المعلقة على الجدار بارتجاج مزدوج، كقائمتين أماميتين لذئب فشل في تسلق أكمة الشجر..
لهذه الصورة حضور مريب، فعيون صاحبها تلمع برضا مخيف مع كل ارتجاج كضربات ذاك الذئب الغاضب.
كان يوجد لصاحب تلك الصورة ثلاث لقطات مختلفة، تتوزع بين الصور المطليَة بغبار المخزن يوم سمح لهم– بحرية مطلقة• اختيار إحدى اللقطات، شرطاً قبل ولوج المكاتب التي سلمت لهم بعد رحيل مؤسسة فوضوية ليرثوا مزرعة غبار لن تقطف أبداً.
اللقطات الثلاث تتساوى بميزان الفزع كعدل إلهي، فالأولى لوقار البذلة العسكرية المزركشة بالنياشين، لكن الوجه فيها يموِّه بابتسامة خفيفة واثقة... أما الثانية فتُظهر وجهاً عابساً من وقاحة الشمس، رغم النظارة السوداء التي ابتلعت كثقب أسودٍ طموحٍ، النور المبهر، وموهت رعبها أيضاً برداء صيفي ذي لون فرح، لتبقى الصورة الثالثة التي اختيرت، وهي تهتز الآن بعيونها المريبة المقامرة، تختبئ في أناقة بذلة سوداء لامعة.
يتعالى الصوت في معركة تهفو وتنزلق باتجاهها، فتسأل نفسها سؤالاً لطالما رافق صوت المدافع: هل يخمن من تُقذف له المدافع نجاته بالطريقة القديمة حيث الصوت هو النجاة، والصمت هدوء قد يرافقه لصمت الجَدَثِ ويحجبه عن الفوضى للأبد؟ تتذكر هنا أنها في جهة الصوت، جهة النجاة المحتَّمة، فتهزأ من مكبرات الصدى الفاشلة، التي طمأنتها قبل أن تنجح بإسقاط أول ضحية من ضحايا الارتجاج.
الضحية الأولى التي انفصل رأسها بعد الاهتزاز والسقوط، كانت لراقصة باليه زجاجية موضوعة على المكتب حتى تراوغ سأم الغبار والرطوبة..
ركضت، وانحنت لالتقاط أشلاء الراقصة، لكن رجّة جديدة من مدفع ربما جديد سيقذف موتاً مزدوجاً عندما سيصيب هدفه الخاطئ في الجهة الأخرى بدقة عالية، وسيسمح للجدار الذي أصبح فوقها بطرد مسمار اللوحة المترنحة لصاحب العيون المريبة، التي ستسقط كقذيفة زائفة مغيبة ملامح وجهها، لتدخل في جهة الصمت.. جهة الهدوء المسافر للهدوء الأبدي.