الزمان في نص الروائي السوداني الطيب صالح 1- 2
تعوَّد البشر في تجربة الحياة اليومية أن يفكروا في عالم ذي أبعاد ثلاثة الطول والعرض والارتفاع، وكل من هذه المقادير يُقاس بزوايا قائمة على سطح البعدين الآخرين. ونحن نستطيع من حيث المبدأ تحديد أبعاد الجسم الصلب بالرجوع إلى النظام الديكارتي للإحداثيات الذي يقيس المسافات في ثلاثة اتجاهات متعامدة بالتبادل. ونستطيع أن نتصور الأشياء الممتدة مكانياً في ثلاثة أبعاد. والغالبية العظمى منا تنظر إلى الزمان بوصفه شيئاً متميزاً عن المكان ولا يرتبط به، شيئاً ينساب قُدماً إلى الأمام بسرعة منتظمة.
إن فكرة النظر إلى الزمان بوصفه بُعداً رابعاً مرتبطاً بالمكان قد تصدمنا بغرابتها، ولكنها أصبحت من المسلمات الأساسية في تفسير البنية الكونية التي اعتمدها أينشتاين من خلال نظرية النسبية. تعتبر طبيعة الزمن إحدى الموضوعات المحبوبة جداً في الأدب، وثمة مؤلفات لا تحصى من القصص والروايات والمسرحيات اعتمدت كأساس لها الافتراضات المختلفة حول خصائص هذه القيمة الفيزيائية. ولا ريب في أن أصحاب مثل هذه المؤلفات يستغلون التحركات المرتبطة بالزمن بمثابة خلفية تجري أمامها الحوادث، هذه الخلفية تتيح عرض الأبطال في أوضاع غير اعتيادية، ولا بد من الاعتراف بأنها خلفية ذات إمكانيات لا حدود لها حقاً. ونحن نعرف الحكمة الشعبية الروسية التي تقول: إذا فقدت بيتك فيمكن بناء آخر جديد، وإذا فقدت المال فيمكن كسب غيره، وإذا فقدت الزمن فإنك تفقد كل شيء. لقد تجسد في هذا القول المأثور أكثر صفات الزمن تميزاً وهي أنه لا رجعة فيه. فلا يمكن إعادة الزمن إلى الوراء وما مضى لا عودة فيه .ولكن انظر إلى ما فعله الروائي السوداني المتميز الطيب صالح في شخصية روايته الشهيرة بندر شاه حيث قدم صورة مدهشة للحفيد مريود وكأن الزمن عاد إلى الوراء فعلاً، وهذه من العجائب الطريفة. يقول الطيب صالح في متن الرواية: لم يكن عجبنا ينتهي من التشابه الغريب بين بندر شاه وحفيده مريود، فقد كان الحفيد في هيئته وسلوكه مطابقاً تماماً لجده، كأنما الصانع العظيم صنعهما في وقت واحد وقدم لأهل البلد بندر شاه ثم بعد خمسين عاماً أو ستين عاماً قدم لهم بندر شاه مرة أخرى على هيئة مريود. تخيل توأمين تأخر وصول أحدهما عن الآخر خمسين أو ستين عاماً. القامة والوجه والصوت والضحكة والعينين نصوع الأسنان نتوء الذقن القومة القعدة وطريقة المشي. وحين يصافحانك ينصبان على يديك بالجسم كله وينظران إليك لا كما ينظر بقية الناس وجهاً قبالة وجه بل من جانب الوجه نظرة ودودة ولكنها متمعنة متفحصة. وحيث تقف بينهما تُحس كأنك بين مرآتين وضعت إحداهما قبالة الأخرى كل واحدة منهما تعكس الصورة نفسها في امتداد لا نهائي.
تأمل في هذا التصوير المبدع الذي جاء به الطيب صالح حيث عمل على تحويل البعد الرابع إلى حقيقة واقعة . هنا يتجلى الزمان عبر ضرب من الفن الروائي الرفيع لا تستطيع استحضاره إلا قلة من الروائيين المبدعين الذين يمتلكون هذه القدرة الباهرة على بناء ورسم الشخصيات. وأبادر هنا بعرض ملاحظة قد تكون غريبة بعض الشيء استقيتها عبر سنين طويلة من المتابعة-وآمل أن أكون صادقاً فيما أذهب إليه- أدب كل من يحيى حقي وحسيب كيالي والطيب صالح ينضح من إناء واحد يتمثل في لغة تنهل من تراث عربي إسلامي عملاق، وهي لغة حية أنيقة رشيقة شاعرية عذبة في جرس كلماتها و إيقاعها وشفافية مضمونها.إننا نعيش في أعمال هؤلاء الأدباء الثلاثة نسقاً من التأليف الروائي المُبدع، وكأن بينهم وبين القلوب نسب وبينهم وبين الحياة سبب، بل قل لقد فارت الحياة من بين سطورهم. إنها واقعية فنية حافلة بالخيال الجامح المتفرد. وأُعطيك مثالاُ واضحاً عن العبقرية اللغوية الفذة حيث يفتتح الطيب صالح روايته عرس الزين بقوله: قالت حليمة بائعة اللبن لآمنة - وقد جاءت كعادتها قبل شروق الشمس – وهي تكيل لها لبناً بقرش:
-سمعت الخبر؟ الزين مو داير يعرّس. وكاد الوعاء يسقط من يدي آمنة واستغلت حليمة انشغالها بالنبأ فغشتها اللبن.
انظر إلى هذه اللغة الموحية التي تعمل على استكشاف أبعاد الشخصية في لحظة الفعل الإنساني المشبع بالحركة في الزمان والمكان.فحين تسأل حليمة جارتها آمنة هل سمعت الخبر؟ لا تترك فرصة لآمنة كي تجيب بل تقول رأساً: الزين مو داير يعرّس. وهذه اللهجة السودانية الحميمة يحملها الطيب صالح على رافعة لغوية قادرة على إدهاش القارئ، وأنظر إلى هاتين الجملتين الرائعتين (تكيل لها لبناً بقرش) (استغلت حليمة انشغالها بالنبأ فغشتها اللبن)هذا الإبداع اللغوي الفذ يشبه عمل نحات الحجر الذي يعاند عاديات الزمان.