سـيرة غيابهــا
طارق العربي طارق العربي

سـيرة غيابهــا

إلى الفنانة السورية حلا عمران في واقعها، والفلسطينية شمس في واقعي..

 

1

 كنتُ أمشي.. أترك كل شيء لله وأمشي، حين رأيت الجندي يطلق النار عليّ لم أتحرك... تركت الأمر لله، الله يحمي المؤمنين، وأنا أؤمن بالله وأترك له كل شيء، والبلاد تركت كل شيء لله، ما حاجتي للقول سأفعل هذا وذاك في الغد؟ ما حاجتي للقفز خطوة كي أتجنب الرصاصة؟؟ جميع الأقدار كتبت.. ما حاجة البلاد لدولة مسخ؟؟ إن السيناريو الإلهي جاهز.. لماذا نحارب سيناريو السماء؟؟ نريد دولة.. هذا كذب الساسة علينا، نحن نريد دولة لنسرقها؟؟ هل يريد الله دولة هنا؟؟ الأمر معقد، معقد جداً، لماذا نحارب السماء إذاً؟؟ نحن لا نحارب إسرائيل نحن نحارب سيناريو السماء!

 

2

رأيتك في في رواية نسيت اسمها، كانت الرصاصات تَأتِينِي من كُل صوب، وكنتُ أقرأ ناسياً ملاك الموت الذي يَطير بِجانِبي. كنتِ في الرواية تبتسمين فأبتسم، تتوجعين فأتوجع، تنامين فأنام، وحين تذهبين لخيانة الله أذهب أنا الآخر لخيانة نفسي. وعندما تمارسين الحب أحني رأسي بخجل وأنتقل لصفحة أخرى.. لا أريد رؤيتكِ عارية صحبةَ آخر من ورق، ما أتمنى لو أنّي الآخر الذي يشاركك البطولة والحب والسرير والأحزان والانسكارات الخفيفة في خاصرة المخيم.. لم لم أكن أنا البطل هناك؟؟ لم؟؟ حملتُ خيبة بيروت على كتفي، ومرارة أوسلو جعلتُ منها  غصة في الحلق، والجنازات التي شيعتنا طوال تسع سنوات في الانتفاضة صنعتُ منها سرير نومي، والانقسام لعنة.. تخيلي أني وأبي قمنا ببناء جدار عال يفصل غرفتي عن البيت لانه يحب حماس وأنا أحب فتح...

انتبهي فأنا أقول بالحب وليس باتفاق الحزبين!!

لي أكثر من خيبة، وأكثر من قصة، وأكثر من ذاكرة، وأكثر من حياة، تصلح لأن تكون عملاً روائياً يصلح للسينما، ولو كان الشريط من إخراجك فأظن الحكاية ستمضي إلى ما صبا إليه الرواة جميعاً حين خذلهم التاريخ.. فهل ستهمليني  وتنصفينني كما  لم يحدث مع راوٍ يوما!! وكما لم يفعل التاريخ مرّةً!!

3

الذاكرة.. الجنازات.. الزيتونة.. الكرمل.. أنت.. أبي.. الجنود.. الحواجز.. الأصدقاء.. القصيدة.. القيامة.. إلخ إلخ.. أريد أفقاً آخر، حرباً أخرى  تشبه حرب بائع القهوة الطفل على الرصيف.. أريد حرباً أخرى لأمسك بك وبها هي "الغائبة".. وبأولي..

 تخيلي النكتة؛ حين اقتربت من الإمساك بهويتي في المدرسة كانوا قد بدؤوا يسقطون نشيد إبراهيم طوقان من الطابور الصباحي، ولم ينتبه أحد إلى أن جذر شجرة كنعان سرقت..

4

سأحكي لكِ قصة السمكة التي ماتت في غيابكِ، ماتت أجل ماتت!! أنت غائبة دائماً وأنا لم أعد أرجع إلى البيت كي لا أصطدم بوحدتي. لا تعاتبيني على هذا، أعرف أنك تحبينها وأنك كنت تقومين بتبديل الماء لها كل يوم، وتطعمينها ثلاث مرات، وتغازلينها وتحدثينها أكثر مني، ولم أكن أغار، أنا الذي متّ مرتين وانكسرتُ مرات لأجلك لم أكن أغار، لكني غضبت جداً من نهاية الرواية، لا لأن البطل كان يقبلك  بشرقية رائعة، بل لأن الراوي اختار لي السجن واختار لك الهروب، كأنه يريد للمآساة أن تأخذ وقتها في انتظار تدخل الله!! لماذا لم ينتبه الراوي إلى أن فلسطين ليست مأساة بل مجرد كسر في مفصل الفرح. لماذا لم تتزوجي من خليل أو لم تتزوجيني أنا؟؟

هل لان جميع الحالمين سيئو  الحظ؟؟

هل يغتصبون الفرح الفلسطينني حتى بالروايات والحب واللقاءات؟؟

لو كان لي أن أكون الراوي لأقمتُ لك زفافاً فلسطينياً تبدؤه أغاني ليلة الدخلة وتنهيه أغاني الحقل، أو لكنت سافرت لك قبل الحرب.. كي يكون للخيال حصة في ترميم هذا الواقع المتهالك..

 

5

كتب الشعر تفضح العاشقة.. هل ما زلت  تؤمنين بالشعر وتحبينه مثلي؟؟ أنا أقرأ الشعر لأبكي، أبكي حين أقرأ قصيدة لا أعرف شاعرها، وأبكي على رجل غريب مات دون سبب، هكذا تلمع عيوني و أبكي... غريب كيف تبكيني قصائد بدر شاكر السياب التي تشبه حزن عينيك، وقصائد أمل دنقل التي تشبه غصة حلقي!!

الشعر لغة هذه الأرض التي سَمَاهَا مُحمود دَرويش فلسطين وأنا سأَسمِيها فَاطِمة!! فاطمة لغتها الماء والشعر، حين تستيقظ تقول الشعر، وحين تنام تترك الناس يكتبون قصيدتها، لهذا بالتحديد يحلمون..

6

لماذا لم تكوني شمس؟؟ دمشق أقرب لوجع شقيقتها فلسطين من الشقيقة البعيدة تونس، واكثر قدرة على تجسيد حلمها وحلمنا  بمدينة علمانية لا تخلو بيوتها من الياسمين والورود الحمراء واقرب لروحها ورقصها وعاداتها ، انا اكيد انك كنت ستؤدين الدور ببراعة لا تخلو من مكر و طيبة  فلسطينية الجَذر و الخيبات دمشقية الهوى والحلم،  في رِوايتي ستكونين البطلة والراوية والراقصة والثائرة والمجنونة الخائنة واللئيمة المستحيلة والطيبة القادمة من قصص «أليس في بلاد العجائب » الحالمة التي تريد تبديل الرصاصات في جيوب المتحاربين  بقطع شوكولا وأصوات المدرعات بصوت فيروز

7

المخرج قال لي إنَّكَ تَركتَِ خَليل لأنك تُحبِين المَسرح أَكثر...! وأن خَليل سيئ الحظ لم يكمل تعليمه الأساسي في المدرسة ولم تتح له الحروب فرصة الالتحاق بك في المسرح. مسكين خليل يصبح فجأة شقيق أحلامي المستباحة من الجنود ومن كسلي. فقد كنت أحلم بدراسة الموسيقى لأصعد بوتر وأَهوي بآه متأخرة، أَو أن أصير مُخرِجَاً مسرحياً يشرف على تدريب الممثلات الجميلات واختيار نصوص من كُتابٍ فقراء، أو حتى مصوراً يعرف قواعد حركة الكاميرا جيدا.. لكني لا أعرف كيف تورطت في الكتابة مع أني لا أحب الشعر ولا الشعراءـ الكُتَاب هم أكثر الناس فقراً وخيبةً، إن أحبوا تخونهم حبيباتهم مع آخرين، وإن حلموا تصبح أحلامهم نصوصاً   ضرورية لعزاء خيبات الآخرين من خيانات الحبيبات والحياة.. قدرهم أن يكونوا سطوراً في سير المواجع..

8

ألن تأتي لزيارتي في نابلس؟؟

أحلم بعرض مسرحي يجري وسط الناس وضوضاء السيارات في شارع غرناطة، حيث  تكونين نجمته الأولى.. لماذا لا تأتين فجمالكِ كفيل بفك الحصار عنا!!

9

هذه الرسالة ليست شيئاً، ولا تنتظر أية إجابة. ربما ستكون رسالة مميزة ضمن ما يحويه صندوق بريد معجبيكِ.

كنت أرغب بكتابة سيرة غيابها، فوجدتُ أني الغائبُ. وأن أستعيدها من لا وجودها فوجدتُ لا وجودي يسخر من وجودي..

مع ذلك لا أصحو من غيابها ولا من سؤالها.... ماذا يفعل الأطفال في غياب الأمهات؟؟ ماذا أفعل أنا في غيابها؟؟