تلك التفاصيل المهملة
ربما سيتوجب علينا في وقت ما إشهار أقلامنا استعداداً لولوج عوالم اعتقدنا في يوم ما أننا هجرناها بعد أن التقطنا منها كل ما يخصنا، أراض خصبة شكلت تجربة كل منا في أزمنة مختلفة وأماكن متنوعة، فصرنا نحمل منها في صناديقنا ما يقودنا للتميز بين الطرقات والأزقة، ذاكرة تتألف من محطات متتابعة اختفت معالمها واحتفظت بسر تفاصيلها .
أذكـــر أنني توقفت ذات مرة عند عبارة للكاتب اليوناني "نيكوس كازنتزاكي" في سيرته الذاتية ( الطريق إلى غريكو) كان يطلب عبرها من ربه أن يمد في عمره فقط عشر سنوات أخرى يكمل فيها عمله ويقول كل ما لديه، فقد أحس بأن الوعاء الذي كان يحمله لم يفرغ بعد، الموت كما يرى لا يستحق أكثر من كيس عظام، أما الباقي فمن حق الحياة والأحياء.
بعد قراءتي لسيرة هذا الرائع أول مرة كان يشغلني ولبعض الوقت سؤال بدا لي حينها في غاية الإرباك، ما هي الأشياء التي كانت عالقة في نفس "كازنتزاكي" وتمنى إخراجها لحيز التجربة، وكنت كلما قرأت هذا العمل أقف عند تفاصيل أغفلتها قراءتي السابقة لتحيلني إلى التساؤل الأول نفسه، وكنت دون أن أشعر كيف حدث الأمر انتقل إلى الضفة الأخرى لأبحث عن مفاتيح للقراءة التي لم أبلغها حينها، لاحقاً أدركت بأني عجزت عن إيجاد ما بحثت عنه بين مساحات مهملة، ذاك أن تلك التفاصيل المهملة كانت بالفعل ما أبحث عنه .
لا أعلم حقاً إن كانت عشر سنوات تكفي " كازنتزاكي " بالفعل ليفرغ كيسه ويعلن بعدها عن هشاشة عظامه، حتى في حال توقف خلال تلك السنوات عن الاستقبال واكتفى بالإرسال، فلا أظن بأن هناك متسعاً من الوقت لأي إنسان ليحصر سيرة تفاصيله، حيث يعجز أي سفر عن احتوائها وأي قلم عن إعلان نهايتها.
فالسيرة بهذا المعنى أوسع من أن تتحدد ببعض المواقف والأحداث، السيرة هنا تتجاوز الوصف اللفظي إلى حيث يحتفظ كل شخص بخطوطه الخاصة به ولغته الشخصية التي لا يتقن فك طلاسمها غيره، وفي مناسبات عديدة يعجز حتى هو عن القيام بهذا العمل بعد أن يطلق العنان لنفسه باقتفاء آثر أقدامه دون معرفة لون الحذاء ويحس بأمور يجهلها ويعلم بخطيئة السؤال عنها، السيرة هنا تعني الظروف المكونة لمحيط الذاكرة، السيرة هنا تحتاج لأكثر بكثير من عشرات السنين لتفصح عن كل أسرارها.
وإن اتفقنا بأن السيرة هي جزء لما تحتويه الذاكرة فعلينا أولاً أن نوقف نزيف التوليد المستمر لدفق الذاكرة، ونطيح بعبقرية أي زمن يقيدنا، فلا تستحيل إبرة المخيط بين أنامل الأم في مساء ممطر لأكثر من الثوب الذي تغزله، علينا أن نغمض أعيننا عن رؤية خربشاتنا على جدران منزلنا القديم، علينا أن نتوقف عن استنشاق روائح فصولنا القديمة في المدرسة الابتدائية وأن نصم أذاننا عن أغنية شهدت أعتقادنا بولادة أول حب وهمي، علينا أن ننسى لون العكاز الذي حمل ذات أعمى على تجاوز صوت المنبهات وأن نقتل لحظات الذنب الناتجة عن تفوهنا بكلمات غير لائقة أمام عدم اكتراث أناس نحترمهم حتى الخوف، علينا إزالة الندوب المتصارعة على أجسادنا والزعم بأن أرواحنا أقوى من أن تكسرها كلمة، علينا إخفاء سبب سقوطنا أمام مشهد سينمائي والتوقف عن اختلاق مبررات لوقوفنا أمام عاصفة، علينا أن نسيء الظن بالزقزقة والصهيل والهدير.. ولنفعل ذلك علينا البحث عن إحصائي يربت على أكتافنا قبل أن يعتذر عن الاستمرار في أداء عمله.