الثائرون.. ونحن
مام التلفاز، أتسمر مصدوماً مذهولاً غاضباً، تتملكني مشاعر الفخر والحزن والحماس في آن.. أريد الذهاب إلى تونس!! يجب أن اذهب إلى تونس الشعب العظيم، يجب أن أسجل الأحداث وأحفظ كل لحظات البطولة والعزة في صور، أجمد الزمن أمام تلك العيون الشجاعة... لكنني لم أكد أحرر جسدي من النزوع إلى تونس، حتى كان أبطال وبطلات مصر يرفعون حمى التوق والتمني أكثر وأكثر.. أريد الذهاب إلى مصر.. يجب أن أحفظ للأجيال القادمة دروس البطولة
كيف يكون الشجاع، وكيف العين تقاوم المخرز... تتملكني الرغبة إذ تؤول هاجساً، ويصبح الشارع مدعاة للخيال ونسج قصص أبطالها هم، وأنا الذاكرة التي لا تنسى، عدستي ذاكرتي الأمينة... أنا هنا، وهم هناك.. يشتد الغضب حرقة في الصدر موجعة للروح، ويتألق الحزن.. أنا هنا وهم هناك..
هم يخططون مدنا وشوارع جديدة، هذه الساحة التي قُتل فيها بعض المنتفضين، وهذا الشارع حيث صرخ الأطفال أمام العصي والرصاص، وذاك الجسر مشينا عليه نعصر الغمام الأسود وخيط دم بهي يضيء النيل.. وأنا.. أسجل الوقت والتاريخ لكل صورة، وأصف المشهد الرهيب بموضوعية ودقة عاليتين، أنا الرمادي الأمين بين الألوان الصارخة. هم يضحون بأجساد أنهكها الجوع والقهر والذل، وأنا، أضحي بهدوء منزلي الآمن الدافئ، وصحبة تذهب أحزان القلب الطري اللطيف..أنا هنا، وهم هناك...لست ذاكرةً للشعب الأبي الحر، ولا سجلاً لبطولات كل المجهولين، أنا تسجيل أخرس للقمع والعنف، صوري تجمد الزمن وتعزله عن حرارة تلك الحناجر، تسويق ممسوخ لجرائم الرصاص وإرهابها...
ليس في الإمكان، لي أو لغيري، أن نحفظ أو نسجل بطولات كل الأبطال، في تونس أو مصر أو أي مكان آت، ولا أولئك الذي مضوا أخيلة في زحمة ذاكرتنا المشوهة هنا أو هناك.. لا، لا أحد غيركم، أنتم يا من نجهل أسماءكم، ونعجز عن الإحساس بآلامكم، أنتم لا تستطيع الكاميرات اللحاق بكم، ولا الشاشات «الموضوعية باحتراف» أن تخترق قدسية نضالكم، أنتم وحدكم تسجلون التاريخ وترسمون الذاكرة الجديدة الحقيقية، تعرّفون الحب من جديد، وتعطون للريح لهيب أجسادكم.. أنتم عصيون على النسيان بلا أسماء ولا صور ولا «نقل مباشر»، أنتم هناك.. ونحن هنا...
يا أيها الشهداء والأبطال في كل أرض مسلوبة من أهلها، سامحونا، فإنما نحن نعوض نقصنا وخزينا بالاقتراب منكم والتيمم بالتراب تحت أقدامكم، امضوا فالأرض لا تنبسط إلا لجباهكم المرفوعة الشامخة، ولا السماء تفتح إلا لأرواحكم المنفلتة من القيود...