سجناء الجنة
لا نقبل بأن نكون مجرد أبطال، فالبطولة اختصاص التفرد، وليس هما إذا تم تغييبنا. نحن صوفيون في تعاطينا مع الإنجاز وخفيون في مواجهتنا للعائق. لا يزعجنا كوننا قرابين مجهولة، ولا ينقص من قدرنا اعتبارنا كفناً فارغاً، نحن التشاؤم المتفائل بحرب الطبقة، والعمى البشير ببعث البصيرة. أسماؤنا كثيرة وألقابنا أكثر، معيارنا هو السنابل، وجائزتنا هي بسمة المقهور، أما بالنسبة لقناعتنا بنهجنا ((لا أهمية للقناعة عند اعتناق الخيار..)).
نعلم أننا فانون، ولكن قضيتنا خالدة. لا نخشى العدم، ولا نندم على مصيرنا، لن نتخلى عن سجننا لأجل أي حرية مادية، ولن نتنازل عن زنازيننا مقابل أي قصر، لا يعنينا أن نكون محور الجدل فنحن من اخترعه. لا يهمنا أن ننصف، فالإنصاف لغة ثبات المنسوب! أما اعتكافنا فليس فعل إقصاء، بل هو الفترة التي تكفي لكي تنضج القلوب. نحن نخب الانتصاب، والامتداد للسلالة الحاكمة الشرعية، سلالة لملوك دون صولجان، لنا وقتنا وزماننا ولحظتنا المصيرية التي سنقيم فيها مملكتنا العاصية.. مهما حاربنا المشككون، ستأتي لحظتنا كما تأتي عواصف الربيع، وفي تلك اللحظة سنخرج من سجننا ولكن لنسجن العالم كله في حريتنا الأثيرية، سنربح التاريخ وسهرات النار وأغاني الحصاد وضحكة الصبية... وسنعزف سيمفونية الخلاص المؤذنة بخراب السياق..((هذه حتمية وليست وعدا))..
أكثر المرتدين قذارة أولئك الذين تماسكوا في البداية ثم سلبوا أنفسهم الأمل، أولئك الذين لم يصمدوا أمام مغريات المحيط في أول تماس حقيقي معه، الذين قاسمناهم خبزنا وذكرياتنا ودموعنا وقاسمونا خذلانهم. مثقفو المكتبات، وأصحاب النفس الثوري المرن، أعداء التضحية وأصدقاء السهرات.. ((كزميل زنزانة قديم، أحببته ووثقت به كما يثق الرضيع بنهد أمه، أعطيته من خبرتي وامتصصت كل جهله. كنت أسارع لمساعدته كما يسارع لإيقاعي بالشك، وأقسو عليه عندما يتجرد من حلمه كما يثني علي عندما أحلق ذقني، لطالما أراد أن يكون الأطول فينا تحت سقف غطانا جميعا..! يحاول أن يقنعنا بسعة معلوماته متناسيا أننا من علّمه إياها بعد أن علمنا إياها غيرنا. حفظ جميع أساطير الأبطال، ولم يتجرأ على كتابة أسطورته الخاصة. عدم إيمانه بالحب وبالجندي الأعزل، أسقطه في شرك الرخاء الجنسي والمدخرات الاجتماعية وجعله يتملص منا عند أول بارقة ضيق)). هو أكثرهم نذالة لأن أنذل الرجال هم أولئك الذين يخصون أنفسهم.
أحياناً، فكرت أنا نفسي بالهرب.. كانت الحرية المليئة بالنظم المفصلة، مغريةً إلى حد ما، والبقاء في سجننا الطوعي يتطلب تقيداً بقواعد صعبة الفهم معقدة البنية وغامضة الهدف. في الخارج يوجد كل ما يتمناه (مدعي الإنسان).. الصداقة المأجورة، والضمائر غير المكلفة، معجبون مخلصون رغم خيانة تصفيقهم، مثقفون بحوارات لا تصل إلا إلى نفسها، بناطيل بجيوب ممتلئة، وحمالات صدر سهلة الفك، قلاع لها أكثر من باب، وحدائق بزهور عزّل، كنائس وجوامع تعطل يوم السبت، أسواق للكتب وللمشروبات الروحية معاً، فروع أمن مدني وعسكري وجنائي ومائي وغذائي وفكري وتجاري ودولي ومحلي وأخلاقي يديرها محكومون سابقون. جنسيات تباع وتشترى وحدود ثابتة لكل شيء عدا الوطن.. أما في الداخل فلم يكن هناك إلا نحن، بكل ما نحمله من عقد وهواجس وهذيان وأحلام مستحيلة التصديق.. تناغم فوضوي بين البنج والألم يجعلنا صامدين، وذاكرة غير قابلة للعطب طالما أن الذكريات مستمرة، إحساس مرهف بالعنف ومغامرات عشق بلا سرير، ربطة خبز واحدة ونعوش جماعية، جلدٌ واع للوعي ومحاسبة جادة للطموح، غضب خاضع للرحمة ورحمة خاضعة للصبر وصبر خاضع لمزاجية اللقمة، علب تبغ من كل الأحجام والأنواع ولكن بالسعر نفسه.. وزملاء يتقاسمون الابتسامات ويحتكرون الهم.. (جنون وجنون و جنون)... هذا ما أعطاني الثبات وسلبني الخوف من العزلة (( معرفة أنني أحد المجانين في مدينة تمتهن العقل))