فلسطين.. مشهد النسيان
عصام إسحق عصام إسحق

فلسطين.. مشهد النسيان

-أنا من تحفرُ الأغلالُ

في جلديَ

شكلاً للوطن...

 وحتّى فلسطين لم تعد شكلاً لوطن، بل ذكرى لوطن كان، ومأدبة لسكر العابرين، ومكسر عصا في أفواه العابثين..

- ومازالت فلسطين خبراً أحمر على جميع الشّاشات دون شعار مدروس وممهور بآلاف الدولارات كحملة إعلانية سياحيّة أمثال: «تركيا.. تجربة خالدة»، «سورية..عش أحلامك»، «مصر..أم الدنيا»، «لبنان يا أخضر حلو».. وكأن فلسطين أرض من مستجدّات العصر الحديث، وكأن (أريحا) اختارت جبل الزاوية في سورية مربضاً أولاً وأخيراً لها، وتناست ضفاف البحر الميت، وكأنّ (أورشليم) ميثولوجيا إغريقيّة.. وهكذا تبقى فلسطين لوحة آلام ودرب جلجلة طويلاً، لننسى أنها فلك شاسع لألوان الحياة.. إنها خطيئة مقصودة ومفتعلة، بل خطيئة لذيذة لصانعيها، فالبرامج السياحية لا تستهوي الجمهور العربي، خاصّة إذا كانت عن بلد عربي مغتصب من قبل أن يبصروا نور الحياة، فما الفائدة من  برامج  كهذه إن لم نجد من تدب فيه النخوة والحماسة ويحزم أمتعته ويهرول نحو القدس والخليل و بيت لحم؟ - سوى من لديه جواز سفر أجنبي أو إسرائيلي- وأصلاً إن فكّر  في ذلك فلن يجد من يرحّب به هناك، سوى مضيفة صهيونية ودليل سياحي صهيوني يطوف به في تل أبيب، وما نسجته الأيدي الصهيونية من مناطق سياحية حقيقية ومختلقة، فلن يضيرك التعرّف على قانا الجليل التي اجترح فيها المسيح أولى معجزاته، تلك القرية التي بناها الصهاينة للجذب السياحي، مع حملات إعلانية مكثفة لإقناع العالم بأنها قانا الحقيقية، وليست قانا الجنوب اللبناني التي اجترحت معجزة وجودها مرتين (بغض النظر إن كان المعلم يهوديا أم لا، فهو سيجلب أموالاً طائلة على الكيان)، على أية حال فالنخوة يجب أن تدب من أجل أمر آخر، فبدل أن تجوب عين الكاميرا وتخبرنا- بلا حكي- عن مشاهدة بليدة ومستهلكة، كان بالأحرى أن تخصّص بعضه لمشاهد وصور ملتقطة تحاكي روعة الطبيعة في فلسطين، تصورها كأرض حياة وجمال، وليس كأرض موت ودمار، وهذا لا يلغي أنها أرض لكل هذه الألوان، وما يفعله الإعلام هو بيان اللون القاتم فقط وكأنه اللون الوحيد.. فلو طالعنا محركات البحث في النّت سنجد آلاف الصور والمشاهد التي تعيد فرمتة اعتقاداتنا حول فلسطين، فلماذا ننسى أنها حارسة هيكل الشرق العظيم، لمَ نحن الذين أُجبرنا على نسيان حصار نابليون لعكّا، ويجبروننا على نسيان حصار العالم لغزّة، نجعل من فلسطين خبر سلام مؤجّل، تحمله قوافل الحرّيّة ماخرة عباب جراح غزّة، الأم التي تقاوم بعينها السّمراء مخارز بني صهيون، ماخرة عباب الأبيض الذي استحال أحمر مضرّجاً بنجيع الشّعوب والأمم الرّافعة راية اندثار زمان النّسيان، وتحيي في خواطرنا شيئاً ما كنا نهدهده في صفّنا الأول: «فلسطين داري ودرب انتصاري!»، كيف احترفنا النسيان؟! لنجول في هذا (الكوموس)، فمن يرى ساحل الطّنطورة في فلسطين سينسى سواحل الكوبا غابانا في البرازيل والتي تصنّف كأجمل سواحل الدنيا، ومن يرى بيت لحم القديمة ستغفل عنه صورة أثينا، ومن تقع عينه على صور النّاصرة، سيسخر ممّن يستهويه الرّيف السّويسري.. ومن يجول بنظره في صور القدس العتيقة سيغفر لنيرون إحراقه لروما. القدس ليست فقط الأقصى، وفلسطين ليست الأقصى فقط، وهي ليست كنيستيّ المهد أو القيامة أو الحرم الإبراهيمي فقط... بل هي (كوموس) منسيّ من جبل الزّيتون إلى طبريّا إلى أريحا إلى جبال الخليل وحيفا و بيسان وسبسطية.. ولمّا يزل منسيّاً، حتى أن الفنان الفلسطيني بدأ ينسى معالم فردوسه المفقود، فلا أفلام الأرض المحتلة تروّج لهذا الجانب ولا كتّابها، وحتّى معظم تشكيليّيها لم يستطيعوا بعد أن يخرجوا جغرافية الأرض المحتلّة من لا وعيهم لتلعب بالألوان وترسم أبجديتها من جديد بريشة المنفى والعزلة الطويلة. حتى مغنّيها لم يتغنّوا بهذا الإرث الطّبيعي.. بالطبع هناك من سيبرّر بأنّ هناك ما هو أهم وهو القضيّة، ولكن القضية لا تُجزّأ، نغنّي ونكتب ونرسم ونمثـّل المأساة والتّراث، ولنترك الأرض تعاني وحدتها وغربتها ومنفاها عن العالم، وبالمقابل إعلام صهيوني يتفنّن بالترويج لها، مع تفرّغ قادته و(قادة) الشعب الجريح العملاء للتفنّن بـه.