بين الليبرالية والإسلام السياسي
لا تسير شعوب العالم في تطورها الاجتماعي والسياسي على نسق واحد أو بشكل متواز ومتساو، فهناك شعوب متطورة جداً، وأخرى متخلفة جداً مازالت تعيش مرحلة لا تختلف كثيراً عن العصور الحجرية، والبقية الأخرى تعيش في مستويات متفاوتة من التطور بين العصر الحجري وعصر التقانة، ويبدو أن الشعب العربي بدأ باستعادة مكانته الحضارية، وبتصحيح مساره التاريخي عبر حراك اجتماعي وسياسي تفجر من خلال ثورات شعبية تسعى للتخلص من ديكتاتورية واستبداد تسببتا في تجميد تطور الشعب العربي عقوداً طوالاً
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم في ظل هذه الثورات العربية، هل تتجه هذه الثورات بالاتجاه الصحيح؟
إن تخوف الكثير من العلمانيين العرب من وصول الإسلاميين إلى السلطة في تونس «حزب النهضة» والمغرب «حزب العدالة والتنمية»، وفي مصر «حركة الإخوان المسلمين» كما هو متوقع، هو خوف مشروع ناتج عن موقف الإسلام السياسي المعادي للتطور الاجتماعي والنظام الديمقراطي، حيث يعتبر الكثير من المراقبين أن التطرف والإقصاء يشكلان جزءاً كبيراً من أيديولوجية الإسلاميين الشمولية، التي تلتزم بحكم الشريعة، وتبتعد كل البعد عن التطور الحضاري، وهو ما يحصل حقيقة في السعودية حيث مازالت تطبق «حدود» دينية تتعارض والحد الأدنى من حقوق الإنسان، وفي أفغانستان خلال حكم طالبان عندما فجرت الحركة تماثيل بوذا على أنها «أصنام»، وكما هو حاصل في إيران والسودان منذ فترة طويلة ولحد الآن، رغم إجراء انتخابات صورية في هذين البلدين لإضفاء الشرعية على سلطة الإسلام الراديكالي، وهناك أدلة واقعية وتاريخية كثيرة تثبت ذلك.
أما على المقلب الآخر فإن الأصوات بدأت تتعالى لكي تحفظ الليبرالية ما بقي من ماء وجهها تحديداً بعد بداية الانهيار الاقتصادي الذي تعيشه أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، بسبب تحكم الشركات العابرة للقارات بسياسات هذه الدول، وخضوعها الكلي لاقتصاد السوق، وإفلاسها في الجانب الفكري، وغرقها في الاقتصاديات ورؤوس الأموال والربح والمردودية وغير ذلك من الألفاظ المجردة من الإنسانية التي تدعي الليبرالية إعلاء شأنها.
إن عودة اليسار للظهور مجدداً وبقوة، عبر حركات احتلال الشوارع والمدن في أمريكا وأوربا وحول العالم، يؤكد أن الشعوب التي اختبرت الليبرالية سنوات طويلة قد بدأت تتأفف من هذا النظام الذي كشر عن أنيابه مؤخراً، واستحال ذريعة لاستغلال الشعوب ونهب ثرواتها، وبوابة لتحكم شريحة ضيقة ببقية البشر على هذا الكوكب، ولئن يسعى شعبنا العربي للتمتع كما الديمقراطيات العريقة بالحريات والممارسة الديمقراطية، غير أنه بحاجة أيضاً إلى العدالة والمساواة، ليس في حقه في المواطنة فقط، وإنما في حقه في تقاسم الثروات التي تركزت في أيدي قلة من البشر، وهو ما يؤكد على ضرورة العودة إلى مفهوم الدولة الراعية عبر اختيار نظام اقتصادي يتماشى مع الأوضاع والإمكانيات العربية تجنبا لسلبيات الليبرالية واستفادة من الدروس، ولعل ما تشهده بعض الشركات الأمريكية من إفلاس وعدم تدخل السلطات الفيدرالية لإنقاذها كفيل بالتفكير مجددا في إعادة الاعتبار للدولة الراعية.