تداعيات حول قصيدة «أحبّيني» للسيّاب
أمام سيرة موجعةٌ كالتي عاشها السيّاب من الطبيعيّ أن تفيض أشعارَهُ بهذه الآلام هذا الفيضانَ الجارفَ.. لا سيما وأن مسار التجربة السيابيّة كان، من النّاحية المكانيّة، يماشي النّهر، بطريقة معكوسة، فهو حاذاه في رحلتي العمر والشّعر من المصبّ باتجاه المنبع (وإن لم يصل إلى هناك)..
في الحياة الصّاعدة مع النّهر، كان الشّعر يعود إلى أصله المائيّ، وكانت القصائد تمتلئ بالماء، فكرةً ومعنى..
من الحياة الصّاعدة مع النّهر ولدت الحداثة الشّعرية، والّتي كانت أيضاً مواكبةً لولادة وطنيّة بكر..لكنّ القدر الذي قاد الخطا إلى السّير بعكس الماء، ماء الفرات، كان يمنح الشّاعر جوهر التّراجيديا الإنسانيّة في السّير عكس الماء، الذي هو في الصميم هدف الشعر حين يأخذ على عاتقه تأسيس عالم جديد، في التّفكير والرّؤيا والفهم والتّذوّق وطرق العيش.. إلخ.
السيّاب سيزيف مائيّ، إذا فهمنا سيرته متجاورةً مع نصّه.. لكنّ الشّخصيّة السّيزيفيّة السّيّابيّة نقيض فكريّ صارم لعبث ولا جدوى سيزيف الإغريقيّ.. إنّها ولادة العراق الجديد، وإنّها انبثاق الرّوح العربية الجديدة، إنّها الثّورة التي تأتي على شكل قصيدة من جسد نحيل تنخره الأمراض والعذابات والأسئلة..
«أحبّيني..»، هذه الصّرخة الوجودية الكبرى هي نداء الحياة الّذي سنبقى نردّده، دون أن ننتظر تشريف الحبّ والتّنعّم في فراديسه.. فالحياة ساحة قتال في النّهاية.. والحبّ بوصفه عنواناً عريضاً موجودٌ في الصارخ، المنادي، الصّاعد، حتى لو لم تكن هنالك حبيبة بالمعنى الماديّ..
«أحبّيني..»، تقول القصيدة، إنّ الحبيبة التي هنا هي مطلق المرأة، أي هي الحياة نفسها.. والشّاعر إذ يذهب إليها فلأنّه أدرك بحدس قلبه، ووعيه الثّـــاقب، أن الحب هو المعنى، وهذا ما أوصل السّيّاب إلى المعنى الذي مشتهاه، دون أن يبالي بشيء، لا ببشاعته التي لم يكن يخجل منها، ولا بمرضه الذي ظلّ يتحدّاه بالكتابة، ولا بمنفاه الذي حوّله نشيداً.. لذا أحبَّتْه، نعم أحبّته مطلق الحبّ، لأنّ بدراً الّذي صنع الحياة بروح سيزيف الآخر لا بدّ وأن يُحبَّ..
لنا أن نتعلم من تلك الروح السّيّابيّة أنّنا لن نكون هناك، في مطلق ذلك الحبّ، ما لم نرفع تلك الصّخرة، صخرة الحياة، إلى أعالي الأعالي..