في حميثرا سوف ترى!!
القول في العنوان أعلاه منسوب للإمام الصوفي الكبير أبي الحسن الشاذلي. وقد أخذ لقبه (الشاذلي) من سكنه وقتاً في مدينة (شاذلة) في تونس. وإليه تنسب إليه الفرقة الشاذلية الشهيرة والكبيرة. وقد كان جدي لأمي من أتباع هذه الفرقة الصوفية.
والقول مثل شديد العمق والجمال، رغم أنه لم يسر مثلا بين الناس على عادة الأمثال. وأنا راغب في أن أثير الانتباه إليه عله يجري مثلاً. وهو مثل يمكن ضربه في فهم مغزى أشياء غير مفهومة سيتضح معناها لاحقا. أو في الحث على انتظار الوقت الملائم لانكشاف معنى الأشياء. أي بمعنى: سوف يتضح لكم المعنى الذي لا تدركونه في حميثرا.
أما حميثرا فبلدة في صعيد مصر. وقد وردت قصة المثل عند ابن بطّوطة، رحالة هذه الملّة، كما يقال عنه: «كرامة لأبي الحسن الشاذلي: أخبرني الشيخ ياقوت عن شيخه أبي العباس المرسي أن أبا الحسن كان يحج في كل سنة، ويجعل طريقه على صعيد مصر، ويجاور بمكة شهر رجب وما بعده إلى انقضاء الحج، ويزور القبر الشريف، ويعود على الدرب الكبير إلى بلده. فلما كان في بعض السنين، وهي آخر سنة خرج فيها، قال لخديمه: استصحب فأساً وقفة وحنوطاً، وما يجهز به الميت. فقال له الخديم: ولم ذا يا سيدي؟ فقال له: في حميثرا سوف ترى! وحميثرا في صعيد مصر في صحراء عيذاب، وبها عين ماء زعاق. وهي كثيرة الضباع. فلما بلغا حميثرا اغتسل الشيخ أبو الحسن، وصلى ركعتين، وقبضه الله عز وجل في آخر سجدة من صلاته، ودفن هناك».
وهكذا، فلم يفهم خادم السيد الشاذلي لمن كان عليه أن يحمل فأساً وقفّة وحنوطا إلى الحج. وفي حميثرا فهم الأمر كله. فقد أسلم سيده الروح هناك. وكانت الفأس لحفر القبر، والقفة لرفع التراب من القبر، والحنوط لإعداد الميت وتكفينه.
وهكذا انكشف الملغز في حميثرا.
هناك اتضح المعنى، وانكشف الإبهام. هناك في صحراء عيذاب.
وعيذاب ميناء مصري في طريق الحج إلى مكة. ماؤه زعاف، وحرّه قاتل، كما أخبرنا الحجاج الرحالة. ويقال إن أهل عيذاب كانوا يحملون الحجيج على قوارب مضعضعة خربة، ثم يملؤونها فوق طاقتها، فيغرق الحجيج. ويقال أنهم كانوا يقولون ساخرين عن الحجاج: «منّا الألواح، ومنهم الأرواح». أي أنهم يرسلونهم إلى رحلة للقبر، وهم يقدمون الخشبة التي يحمل عليها الميت إلى قبره، ويقدم الحاج روحه.
بالتالي، فعيذاب كانت الصراط الذي بين الموت والحياة بالنسبة للحجاج. يقول أبو العلاء المعري: لاعبا على الجناس اللفظي بين اسم الميناء وبين العذاب، وبين أسوان والأسى.
أسوان أنت، لأن الحيّ نيّتهم
أسوان، أيّ عذاب دون عيذاب؟!