ربع قرن على رحيل ناجي العلي: فهل أُشبع الطاغية قتلاً؟
أُطلق الرصاص على فنان الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي ابن مخيم عين الحلوة في أحد شوارع مدينة لندن صباح يوم 22 /7/1987وهو ذاهب إلى عمله في جريدة القبس الكويتية النسخة الدولية. دخل بعدها في غيبوبة طويلة إلى أن فارق الحياة في 29/8/1987 وكان قد رسم قبل أسابيع لوحة رشيدة مهران ونشرت في جريدة القبس يوم 24/6/1987 سخر فيها وبجرأة قاتلة من هيبة السلطة الفلسطينية وقدسيتها. مطلق الرصاص هو عبد الرحيم مصطفى عضو في القوة 17 الفلسطينية المكلفة بحماية ياسر عرفات. ويقال إنه غادر بريطانيا والتجأ إلى أحد مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية، ثم اختفى، ولم يعثر له على أثر .
وصف الاتحاد الدولي لناشري الصحف في باريس ناجي العلي بأنه واحد من أعظم رسامي الكاريكاتير منذ نهاية القرن الثامن عشر. وهي الحالة الأولى في تاريخ هذا الفن التي يتم فيها قتل فنان كاريكاتير رمياً بالرصاص بسبب رسومه. ما الذي أزعج الطاغية وعكر صفو مزاجه حتى يقتل رسام كاريكاتير عبَّر عن هموم العامة بالحبر الصيني الأسود الرخيص؟ وهل يمكن لهذه الرسوم البسيطة الساخرة أن تهز عرش الطاغية وتدفعه لقتل خصمه علناً على قارعة الطريق في وضح النهار؟ حالة غريبة ونادرة تحتاج إلى دراسة وتفسير. أغلب الظن أن محنة ناجي العلي مع ياسر عرفات تشبه إلى حد بعيد محنة ابن المقفع مع المنصور أبو جعفر ثاني خلفاء بني العباس :
كان الفرن مشتعلاً، وقُيد ابن المقفع إليه. توقف أمامه، فقال له سفيان بن معاوية: والله يا ابن الزنديقة لأحرقنك بنار الدنيا قبل الآخرة، وذلك يعود إلى كون ابن المقفع كان يعامل والي البصرة بازدراء. كان لسفيان أنف هائل الحجم، وعندما كان ابن المقفع يلتقيه يحيه بقوله: السلام عليكما. كان يعتبر أنفه شخصاً مستقلاً، ملصقاً بوجهه، لهذا تربص به الوالي حتى جاءته الفرصة فألقاه في الفرن. كيف سنحت الفرصة لقتل ابن المقفع؟ وما خطيئة إذاً؟ خطيئته افتراضه أن للكلمة تلك الخاصية السحرية وفي إمكانها تغيير العالم. سعى في خطوته الأولى التغيير الذين يستطيعون التغير، فأرسل للمنصور كتاباً صغير الحجم عظيم القيمة أسماه رسالة الصحابة نصح فيه الخليفة لحسن اختيار بطانته وحسن سياسة الرعية. سخط الخليفة مما جاء في الرسالة من جرأة تنال من هيبة وقداسة السلطان وحاشيته، فما كان منه إلا أن أمر عامله في البصرة بوضع ابن المقفع في الفرن. وهنا أتساءل مع الباحثة المصرية الفاضلة الدكتورة هالة فؤاد متى تمارس السلطة سلوكاً عنيفاً يصل حد الغضب المستعر وممارسة الانتقام والتصفية الجسدية لأحد منتقديها حين يتطاول ويتجرأ عليها علانية؟ أتصور أن يحدث هذا التحول في سلوك السلطة حين ينال فعلياً من سطوتها وهيبتها وتزداد وطأة المسألة وخطورتها حين لا يكتفي بقول الحقيقة عارية بيد أنه يحاصر الطاغية ويراقبه ويخترق عوالمه السرية منتهكاً قدسيته المزعومة. وأود أن ألفت النظر إلى ملحوظة مهمة هي أن الوقوف مع الرعاع وإظهار أقوالهم المتداولة الفاحشة حول الطاغية وحاشيته والتشجيع عليها والذهاب أبعد مدى في فضح أسراره، تدفع الطاغية ليكون أشد عنفاً ودموية في ردود أفعاله. ولعل المضمر الأكثر عمقاً وتخفياً وراء هذا الغضب المستعر نحو رسام يتكىء في سلامته الشخصية على تضامن الرعاع من قومه في مخيمات الفقر والفاقة، هو إدراك الطاغية عجزه عن فهم نوازع هؤلاء البسطاء ومبررات هجائهم السافر. فقد قيل إن ناجي العلي تلقى تهديداً من ياسر عرفات بقطع أصابع يديه إذا استمر بالسخرية في رسوماته اليومية من القيادة الفلسطينية وزعيمها. فكان رد ناجي العلي مزيداً من الرسومات التي تطال هيبة الطاغية وبطانته. وقال متحدياً ساخراً في آن معاً: إذا قطعتم أصابع كفي سأرسم بأصابع قدمي.ومن المثير للانتباه حقاً أنه كلما زاد القمع وتعددت ضروب المذلة والإهانة والإحباط اليومي كان هذا دافعاً نحو المواجهة العلنية السافرة. أي أن الطاغية الأشد قمعية هو الأكثر تعرضاً لأعنف تعبير عن الغضب. ويفسر لنا جيمس سكوت هذه المسألة تفسيراً مهماً لافتاً حيث يرى أن الخضوع والإذعان الإكراهي لا ينبئ عن استسلام حقيقي أو اقتناع فعلي بل إنه نتاج الخوف من العقاب والبطش. وكأن الإكراه والعسف يحصن المقموع ضد الإذعان ويولد لديه الرغبة العارمة في التمرد. فإن ميدان تفجر التحدي العلني سيغدو دوماً الميدان الأكثر براحاً وحرية. بل إن هذا الميدان سيغدو مساحة يكتشف عبرها كل من القامع والمقموع طاقاته الحقة وإمكاناته المضمرة عبر بلوغ الصراع بينهما ذروته وتوتره، ما بين تجاوز المقموع لكل الحدود وانتهاكه لكل المعايير والقيم من ناحية، وعنف الرد ودمويته من الطاغية من ناحية أخرى. وأتساءل مع الفنان يوسف عبد لكي هل حشا ناجي العلي كاريكاتيره بالديناميت حتى أعطى هذا التأثير المتفجر المميت؟ نحن نستعمل تعبير: قتل الموضوع بحثاً، وتعود العبارة أغلب الظن لعميد الأدب العربي طه حسين، فهل أشبع كاريكاتير ناجي العلي الطاغية قتلاً؟ في العادة يتناول رسام الكاريكاتير الشخصيات السياسية العامة بلطف وحرص شديدين، كرئيس الدولة أو أمين عام الحزب أو جلالة الملك أو السلطان المعظم أو دولة رئيس الحكومة وحاشيته. ناجي العلي قلب هذه المعادلة فشخصياته من الرعاع المهمشين العاديين أبناء المخيمات وبيوت الصفيح الفقراء المساكين زينب ومحمد وفاطمة وعائشة وحنظلة. هكذا أصبح القارئ لا يطالع في رسومه المواقف الرسمية من الأحداث والردود عليها وكشفها، بل يطالع ما يقوله رجل الشارع عبر الحياة السياسية اليومية بلسانه الفضّاح الجارح الساخر معلقاً تارة وشاتماً تارة أخرى.ونكاية بالطاغية وحاشيته الفظة الغليظة القلب، صنع لها من يوبّخها كل صباح، إنه حنظلة ابن المخيم ذو السنوات العشر. وهو دائماً (عاطي ظهره) لذلك يستحيل على أجهزة الأمن والمخابرات كشفه. وهو دائماً حاف، مسحوق، مرقع الثوب، ولكنه في النهاية لا يخسر شيئاً. وضعه كضمير حي، واع، وعين ترصد كل ما ترتكبه السلطة السياسية من موبقات. وهنا تكمن خطورة كاريكاتير ناجي العلي الذي أرق مضجع الطاغية وأقلق راحته، فأمر بقتله رمياً بالرصاص.