الحمار السكران
كان الفضل بن العباس بخيلاً، ملحاحاً إذا ما أقرض. وكان له حمار يسميه: «شارب الريح».
فإذا حل وقت دراهمه ركب «شارب الريح» ووقف على غرمائه، وقال:
بني عمّنا ردوا الدراهم إنمـا
يفرّق بين الناس حبّ الدراهم
ويقال إنه كان يبني معلفا لحماره هذا على باب دار المدين، حتى يرد له دينه.
وكان الفضل منقطعا للوليد بن عبد الملك. وقد فرض له الوليد فريضة يعطاها كل سنة، فقال مرة بعد أن أعطي فريضته: «يا أمير المؤمنين، بقي شارب الريح. قال [الوليد]: وما شارب الريح. قال: حماري، افرض له شيئا، ففرض له خمسة دنانير» «الأصفهاني، الأغاني».
بالطبع، فأنا لم أكتب هذه الكلمات كي أسرد على مسامعكم هذه القصة، فهي قصة معروفة جدا، ولا داعي لاستعادتها. لكنني أكتب لأن اسم الحمار «شارب الريح» يثير فضولي. وأنا عادة ما تثير فضولي أشياء غريبة، ولا معنى لها. هذا هو طبعي للأسف. وقد غلب طبعي كل محاولات تطبعي.
ولم يقل لنا أحد لم سمى الفضل حماره بهذا الاسم الغريب. بل إن أحدا لم يضبط لنا تشكيله. ويبدو أن الكل فهم كلمة «الريح» في اسم الحمار على أنها تعني: الهواء. لكنني أشك في هذا الفهم الذي لم يصرح به أحد. وأظن أن الاسم هو: «شارب الرَّيْح»، بفتح الراء المشددة، وتسكين الياء. والريح هي الخمر. فهي مفرد كلمة «رَياح» التي تعني: الخمر. يقول امرؤ القيس في معلقته:
كأن مكاكي الجواء غُديّةً
نشاوى تساقوا بالرَّياح المفلفل
فطيور المكاء، كانت تغني في السماء نشوانة، كما لو أنها مجموعة من السكارى. فالرياح المفلفل هي الخمرة الحادة الحذقة، أي (المزة) كما نقول اليوم.
بالتالي، فاسم حمار الفضل يعني بالضبط: شارب الخمر. وقد أراد الفضل بهذا الاسم أن يعاكس الشائع عن الحمير. فالحمير لا- خمرية، بل مائية. وتذكرون النكتة الشعبية التي تقول إن واحدا لام شرّيب خمر على شربه لها، فقال له: طيب لو جئنا بسطلين من الماء ووضعناهما أمام حمار، فمن أيهما سيشرب؟ فيجيب المسؤول: من سطل الماء. فيرد الآخر متسائلا: ليش؟ لأنه حمار...
وهكذا فالحمار مائي وليس خمريا. وهو ليس كذلك انطلاقا من النكتة، بل انطلاقا من الميثولوجيا. فطائر المكاء خمري لأنه يمثل الصيف الفياض، الذي يتدفق فيه الخمر في الأعناب والأرطاب، في حين أن الحمار ممثل الشتاء اللا فيضي، الذي لا تسري فيه الخمر.
ولأن الخمرة الصيفية تتمثل بطائر، والشتاء غير الفيضي يتمثل بحمار، فهناك عداء دائم بين الحمير وبعض أنواع الطيور: «بين الحمار وبين عصفور الشوك عداوة. ومتى نهق الحمار سقط بيض عصفور الشوك. وبين الغراب والحمار عداوة» «عيون الأخبار، ابن قتيبة».
يضيف الجاحظ:
«وعصفور الشَّوك يعبث بالحمار. وعبثه ذلك قتّال له؛ لأن الحمار إذا مر بالشوك وكانت به دَبَرَة أو جرب تحكَّك بِه، ولذلك متى نهِق الحمار سقطَ بيض عصفور الشوك، وجعلت فراخُه تخرج من عشّها، ولهذه العِلّة يطير العصفور وراء الحمار وينقر رأسه» «الجاحظ، الحيوان».
والحق أنه لا علاقة للأمر للبيض ولا بالأعشاش. فالعداء عداء ميثولوجي وليس عداء واقعيا حقيقيا. إنه انعكاس للصراع بين الصيف والشتاء، بين الخمر والماء، بين المتدفق وغير المتدفق، بين الطالع من الأرض، وبين الساقط فوقها.
عليه، فقد كان حمار الفضل بن العباس سكيرا. أو على الأقل هكذا أراد له سيده الفضل، السكّير اللعين، أن يبدو.