الصوفية في المقامات المغربية
حسام زيدان حسام زيدان

الصوفية في المقامات المغربية

مع اتساع هامش تطهير النفس والروح من حب الدنيا وزينتها، إلى مساحات التمزق الوجودي والتاريخي، أعلنت القصيدة الصوفية المغربية دخولها محاور بعيدة عن الزهد في عمقه الفلسفي، واتجهت إلى استنطاق الخواص الدلالية للتصوف، بغية إقحام هذا النوع من الشعر، في علاقات إشكالية قائمة على نبذ وهدم بنى غير مرغوب فيها، وتشييد بنى يضيق بها الجسد بحدوده البشرية والمكانية والزمانية، للتوحد مع المتلقى والمتلقي للكشف عن ظاهرة اللذة الكامنة في هذه اللغة.

وللوقوف على أصول لذة اللغة بالتجربة الشعرية الصوفية المغربية، وبالذات بعد النصف الثاني من القرن الثاني عشر الميلادي، ودخول مجموعة من الطرق الصوفية المشرقية والأندلسية، بكامل بواعثها وتجلياتها، وعبر مقاربة تحليلية بسيطة، بعد رصد مكونات النص الصوفي الداخلية كالعناصر اللغوية والفنية والجمالية والظاهرة من الأصول والروافد. نجد أن الشعراء المتصوفة في المغرب تعاملوا بذكاء شديد وتعقيد كبير مع المراوغة التصويرية واستخدام المحسنات البديعية، وتسخير اللغة الذوقية الوجدانية، المعتمدة على الخيال والمتفاعلة مع الروح، وتحمل دلالات رمزية تتخذ من التركيب والإيقاع، تتحول إلى مسار مقامي متناغم ينهل من عناصر الطبيعة غرابتها، ودمجها مع الحس الميتافيزيقي المركب، لخدمة المسار المقامي في التجربة الصوفية السلوكية.

وسيطر هذا السلوك الصوفي بالحالات الجمالية والتخيلية، فلم يستطع الانعتاق من المرجعية الإيديولوجية للمتصوفة، ولا حتى الابتعاد عن الإفراط في ولائها الديني، رغم تجلي البلاغة في أبهى صورها، وبعدها الأخلاقي الجمالي وقدسيتها. في بلاغة الفكرة وقدسيتها وبعدها الجمالي الأخلاقي. ليقترن التوهج الدلالي بعيداً عن المادية الجسدية بالبعد العرفاني، ويختزن كل تقلبات المعاني والصور والدلالات، لتنطلق الذات الفردية نحو أفق المطلق، حيث تستطيع الذات الفردية، كما قيل إنه احد أهم الفلاسفة الفرنسيين، وهناك من يقول إنه أعظم فيلسوف ظاهري غاستون باشلار «يتوحد كون الخارج مع كون الداخل».

 ويحلق شعراء الصوفية في المغرب بجناحي الثنائيات الضدية للمتصوفة من جذب وبسط، وانكشاف وستر ضمن محاولة لتحقيق الكونية ضمن أفق جديد هو الحب الإلهي الممزوج بنظرة إستاطيقيا الإدراك، ففي الإدراك الإستاطيقي ليس للجمال وجود فيزيائي كما  يشير الفيلسوف «كورتشه» البؤرة المركزية لحراك إلى أن الإستاطيقيا والإشكالية الإدراكية الحسية والمعرفية التي رافقت الشعر الصوفي في المغرب، فكان «كروتشه» ليجعل القياس الجمالي  المادي لا يمكن تحديده بأطر قانونية ثابتة في الشعر الصوفي المغربي والحالات الإبداعية، بل هو مقياس إدراكي متفاعل مع المنجز الإبداعي أولاً، بهذا المعنى الشعري إذاً، نستطيع الحديث عن تحليق دائم، يقوم به الجسد الصوفي، بحثا عن المطلق واللانهائي، وهو ينطلق من وعي ذاتي لدى الشعر بأن المعرفة الصوفية ، هي التي يتلاشى فيها الإحساس بالفردية، للسماح بانطلاق  محور  أكبر يتسع للكون ويتعداه، ليدلل على أن الروح تملك طاقة مهيمنة على الشعر الصوفي المغربي في  مقاماته كافة .

وتشعرنا حالة الاغتراب لدى الشعراء الصوفية، والملازمة بشكل دائم لنصوصهم، بعيدأ عن ولائهم للجسد، أنهم في حالة سعي دائم إلى خلق صيغ جديدة للتوحد بين الذات والعالم، فيقترن انطلاق الروح عندهم بشكل دائم بمعراج، فيه الكثير من العناء والمشقة، ليكتسب دلالات جديدة تخلص للرؤية الصوفية للحياة، على أنها رحلة استكشافية، سلسة، لا يتوه من يكتسي جسده ببهاء الروح فيها، حيث يتوهج الجسد الصوفي بعد التقاط الطفرة الإشعاعية، التي يتوحد فيها اللاهوت مع الناسوت. لم تقلل اللغة الرمزية والتكثيف في الاستعارات، من أهمية الشعر الصوفي، ولم ينتج الخلل الحاصل بين المتصوفين ودوائر الفقه أي حالة من حالات فقدان التواصل مع الجمهور، بل على العكس استخدمت ألفاظ تلتصق بالحسيات والماديات، بعد أن تطرق لمفهوم الحب الإلهي وأسس عليه أن حب النساء يعد من صفات الكمال الإنساني، فكانت المرأة عند الشعراء المتصوفة معبراً للرقي والارتقاء، ضمن مبدأ العبور نحو القيمة الحقيقية على اعتبار التواصل الجسدي مع المرأة بالحالة الرمزية، البحث الأبدي عن البقاء والتوحد مع حضرة الإلوهية.

إن إخراج الأنثى من حالة التصورات الفقهية والجنسية التي كانت متداولة في الثقافة العربية، وإطلاق الجسد الأنثوي الذي اختزل قديماً في مبدأ النهم الجنسي، إلى فضاء القيم والأخلاق، وإعادة النظر في مفهوم الأنوثة من ناحية فكرية ثقافية، كان أبرز سمات النصوص الصوفية، التي أعطت المرأة المكانة الأعلى في الحياة، لقد جعل الشعر الصوفي من الجسد الأنثوي اشتقاقاً من الجماليات الإلهية، وتصويراً على أنه أجمل وأعظم مظهر من مظاهر الألوهية المبدعة.