الصورة
منذ مدة استهوتني الصور التي ينشرها الأصدقاء على صفحاتهم في موقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) وبدأتُ تدريجياً بالتدرّب على التقاط الصور اللافتة بواسطة الموبايل..
ومنذ أيام وبينما كنت ذاهباً إلى عملي صباحاً، استرعى انتباهي طفلٌ لا يتجاوز العاشرة من عمره، يقف ملاصقاً لحاوية زبالة ينبش محتوياتها باحثاً عن عبوات فارغة، وبيده كيس يملؤه بما تجود عليه تلك الحاوية. وقفتُ متأملاً هذا المشهد البائس وسحبت موبايلي والتقطتُ صورةً له. وإذ بسيارة حديثة قادمة تتوقف ويرمي سائقها باتجاه الحاوية كأساً بلاستيكياً فتقع قرب الحاوية وتندلق منها بقايا قهوة. وجّهتُ موبايلي نحوه وهو يأخذ من السيدة التي تجلس قربه كأساً مماثلاً ويرميها بالطريقة نفسها. ولكن هذه المرة أصاب بها ذلك الطفل على رأسه وانداحت على وجهه قطرات من القهوة. سارعت بأخذ صورة للسائق لدى رميه الكأس الثانية. وقد ضبطني أثناء التقاطها. ويا لهول ما فعلت! سدد صوبي نظرةً غضبى وفتح باب السيارة بسرعة وهرع باتجاهي والشرر يتطاير من عينيه. حملقتُ به، إنه يتمتع بفتوة عارمة وبقامة مديدة وبعضلات مفتولة جعلتني خلال ثوان أفكّر بملاذٍ آمن. تيبّستُ في مكاني، تقلّصت مشاعري، انسفحت قشعريرة في ظهري وهبط قلبي إلى أمعائي..!
ماذا عليّ أن أتصرّف؟ هل يعقل أن أركض هارباً من مواجهته؟ طبعاً لا.. هل أتعارك معه وخسارتي محققة؟ بالتأكيد لا.. هل أنكمش أمامه وأسترحمه ألا يفعل؟ لو أموت يستحيل علي فعل ذلك..
بقدرات أسطورية رسمتُ بسمةً على وجهي واتجهتُ نحوه مهلّلاً فاتحاً ذراعيّ: «مين؟ عبد الجبار؟! يا للمفاجأة السارة! ولك يا مية مرحبا» عانقته وفرقعتُ على خدّيه ثماني قبلات من العيار الذي يُسمع صوتها على بعد عشرات الأمتار. ولم أترك له أية فرصة لصفعي أو توبيخي..
بُهِتَ الرجل وعقدت لسانه الدهشة! تابعتُ مرحباً: «فعلاً كما يقال ربّ صدفةً خير من قنطار علاج.. أقصد خير من ألف ميعاد.. لبّكتني يا رجل.. يا إلهي شو مشتقلك.. قلّي كيفك.. بشرفي ما عم صدّق إني شفتك..! أيـــه يا زمن! جبل لجبل لا يلتقيان ولكن بني آدم لبني آدم لا بدّ أن يلتقيا. ربع قرن يا رجل ولم ألتقي بك.. أقسم بالله منيح اللي عرفتك..! بتعرف؟ ما مغيّر عليّي أبداً، بس شعراتك شوية خافّين..»
ابتسم الرجل وسط ذهولٍ واستغرابٍ كبيرين، واغتنم فرصة الثواني التي منحتها له قبل أن أستطرد، وسألني بصوتٍ متشكّكٍ والحيرة تتملّكه بعد أن نسي المهمة التي نزل لأجلها من السيارة: «مع عدم المؤاخذة يا أخ! مين حضرتك؟ أنا لم أعرفك؟» رفعتُ حاجبيّ مستغرباً ورمشتُ عينيّ ببراءة وأجبته بسرعة بعد أن أيقنت بأن لا معركة ولا من يحزنون: «يا رجل! ألم نُعتقَل سويةً مدة عامين عندما كتبنا على الحيطان عبارات ضدّ الجوع والفقر والظلم وأخذونا على بيت خالتنا.. وبتتذكّر يومها كيف ضربك المحقق على وجهك وطارت عينك الزجاجية من محجرها وخاف المحقق لحظتها وصرخ مذعوراً ذلك الصوت؟! بالمناسبة ..ألـ..» وهنا قاطعني الرجل ساخطاً وقال بنفاد صبر: أيّ اعتقال وأيّ عين زجاجية تحكي عنها؟! أنت غلطان يا أخ! لا عمري اعتُقِلت ولا ركّبت عين زجاجية..». قلت له: «ولك يا رجل تذكّر كيف تجرجرنا من فرع لفرع! شوف أخي عبد.. أنا..» انتفض الرجل مقاطعاً بنزق ونبح في وجهي: «أخي أنا ما اسمي عبد، عم قلّك أنت غلطان!» وانكفأ عائداً لسيارته يدمدم: «العمى شو هالصبح الـ....» وقال كلمة بذيئة. وقذف بنفسه وراء مقوده وانطلق.
كان الطفل يراقب الحوار مشغوفاً مأخوذ اللبّ، يرمقنا بنظرات مترعة بفضولٍ طفولي.
عندما تأكّدتُ من ابتعاد السيارة وابتعاد الخطر، تنفستُ الصعداء، ومسحت شعر ذلك الطفل بيدي. رفعته من تحت إبطيه وقبّلته على جبينه قبلة صادقة لم يسمعها أحدٌ سواه. وسارعتُ بأخذ صورة أمامية له وهو يبتسم.