لوعة الغياب... فيكتور فاسيليفيتش بابينكو «1951-2013»
توضع موضوعية الإنسان على المحك عندما يتحدث عن شخص يعنيه مباشرة أو يعرفه شخصياً، بغض النظر عن رأيه به إيجابياً كان أم سلبياً، وتصعب المهمة أكثر عند رحيله. ربما تفسر هذه الفكرة سبب تأخير كتابة هذه المقالة وربما هناك أسباب أخرى...
عيداً عما يسمى الرثاء أو المديح أو الهجاء أو السيرة الشخصية، وغيرها من أصناف الكتابة الأدبية التي تكتب عادة عند رحيل البشر، لم يكن ممكناً - رغم المحاولة- إلا الكتابة لمناسبة رحيل المعلم «فيكتور بابينكو».
لماذا نكتب عن الموتى؟
«ما يكاد الموت يختطف واحداً من المبدعين، وبعد كلمات الرثاء التي تشبه بعضها تماماً، وما أن يمرّ وقت قصير حتى ينسى ذلك المبدع ويغرق أكثر في التراب، في الوقت الذي يجب أن يكون الموت مناسبة لقراءة هذا المبدع قراءة موضوعية، ولإعطائه المنزلة التي يستحقها وليكون إبداعه لبنة في البناء الذي يكوّن الذاكرةّ..»*
قرابة عشرين عاماً عاشها المعلم بابينكو في سورية، كمدرس في المعهد العالي للموسيقا في دمشق، أدى خلالها مهام عديدة، من تدريس الهارموني والصولفيج والتحليل الموسيقي والتوزيع والغناء الجماعي إلى تأسيس كورال الحجرة.. الخ.
ولكن هناك محطات معينة قد تكون الأكثر أهمية ورمزية في تاريخ تجربة المعلم بابينكو في سورية وتاريخ المعهد العالي للموسيقا بل والحياة الموسيقية السورية المعاصرة.
تأسيس المعهد العالي.. أزمة بابينكو القلبية.. انفجار الأزمة الوطنية
يكفي لنكتشف دور المعلم بابينكو وأثره على الحياة الموسيقية السورية، أن نعرف أن اسمه ارتبط بأهم محطات تطور التجربة الموسيقية في المعهد العالي للموسيقا والثقافة السورية المعاصرة.
1992 يأتي بابينكو إلى سورية ليساهم باستكمال تأسيس المعهد العالي للموسيقا بكل ما لكلمة تأسيس من معنى.
1993 يحضر بابينكو كورال المعهد العالي للموسيقا لأول حفلة تقيمها الأوركسترا السيمفونية الوطنية بعيد تأسيسها.
1995 يحضر «المعلم» كورال المعهد العالي لتقديم أول عرض أوبرالي في سورية، وهو أوبرا «دايدو وإينياس» للمؤلف الإنكليزي «هنري بورسيل» العمل الذي يعد علامة فارقة في تاريخ الموسيقا الدرامية الإنكليزية.
2001 تثمر جهود بابينكو المضنية، ويعلن تأسيس كورال الحجرة التابع للمعهد العالي للموسيقا.
2004 يساهم بشكل فعال مع السوريين في افتتاح دار الأوبرا السوري بعد طول انتظار، وبعد حرائق بقيت «مجهولة» الأسباب!!.
2008 يشارك في حفل افتتاح وختام احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية.
بالإضافة إلى عدة كتب موسيقية دراسية في رصيده «التحليل الموسيقي- الهارموني- قاموس موسيقي» ظهرت إلى النور بشق الأنفس وبجهود شبه شخصية منه ومن بعض الأساتذة وبعض طلابه المميزين.
تعرض خلال حياته في سورية لعدة أزمات قلبية، وفي كل مرة «نجا» فيها من الموت، كان يعود إلى المعهد سريعاً ليكمل مهمته النبيلة، حاله كحال الموسيقا السورية، وحال الثقافة السورية والاقتصاد والسياسة.. حاله كحال سورية، كل سورية، من أزمة إلى أزمة أشد.
وعندما انفجرت الأزمة الوطنية في البلاد وأصبح لزاماً عليه وعلى الأساتذة الروس مغادرة البلاد، قاوم حتى النهاية ولكن البقاء أصبح غير ممكن، فعاد إلى وطنه «الأم روسيا» وتوقف قلبه هناك ورحل بصمت.
سد الفرات - صاروخ سام
- فيكتور بابينكو
هل كان حضور بابينكو إلى سورية مصادفة؟ ماذا كان ليحدث لو لم يأت؟ وما دور سماته الشخصية والعلمية في تفسير أثره؟ هل لجنسيته وتربيته دور ما؟
تعود العلاقات السورية الروسية إلى زمن طويل تصل إلى ما قبل العهد السوفييتي، ظهرت ثمارها الهامة في التاريخ السوري المعاصر، فكان سد الفرات وأثره الاقتصادي العظيم على المخزون المائي والزراعة، والكهرباء التي وصلت إلى الريف الأبعد والناس الأكثر فقراً. ثم كان صاروخ «سام» ، ومهما اختلفت تقييمات حرب تشرين، إلا أن الثابت هو فعالية هذا السلاح ودوره المباغت، وكذلك إرادة الجندي السوري آنذاك. بالإضافة إلى دراسة آلاف الطلاب السوريين الفقراء في الاتحاد السوفييتي.
هنا جاء «بابينكو فيكتور فاسيليفيتش» خريج معهد «تشايكوفسكي» - معهد النخبة- الذي يعد واحداً من أهم معاهد الموسيقا في العالم، الحاصل على وسام الاستحقاق كرجل ثقافة من روسيا – جاء في العام 1992 ليدرس الطلاب السوريين قادماً من كوبا بعد أن درس هناك حوالي ثلاث سنوات.
ربما يفسر هذا التاريخ وهذه التربية وهذه السمات الكثير من أسباب دوره الهام، دور يجعل اسمه بالنسبة للموسيقا السورية كسد الفرات وصاروخ سام.
موت أم غياب! ما العمل؟
بعد سنوات الأزمة ظهرت التداعيات على كل شيء في سورية، فما بالكم بأوضاع الثقافة والفنون والموسيقا والتي تعاني أساساً من أزمات قديمة لا ينفع لإخفائها أي بهرجة أو ادعاءات أو تسويق سياحي بائس.
من حسنات الأزمات أنها تظهر العيوب، رغم أنها بالنسبة للبعض شماعة يعلق عليها كل خطأ، ويخفي من خلالها كل فساد أو ضعف موهبة أو انعدام مهنية.
لن نوصف الآن واقع المعهد العالي للموسيقا أو حال الموسيقا السورية الواضح تقريباً، لكن ما يهمنا في مناسبة رحيل المعلم بابينكو إجراء مراجعة للتجربة التي كان هو جزءاً منها وطرح بعض الأسئلة حول المستقبل.
لماذا هذا الإجماع على احترام فيكتور بابينكو، رغم وجود ملاحظات، لدى عدد غير قليل من أساتذة وطلاب المعهد، على أسلوبه التدريسي والمدرسة التي ينتمي إليها بل وحتى على حدته و«نزقه» أحياناً؟
كيف نقيم تجربة استقدام الخبراء الروس؟ وأي فراغ تركوه بمغادرتهم الإجبارية سواء في المعهد أو في الأوركسترا الوطنية؟
لماذا تخسر سورية سنوياً عدداً من أهم موسيقييها ثم نشكو من قلة الأساتذة الكفوئين؟ ويتحفنا الإعلام الرسمي لاحقاً بأخبار نجاحاتهم في الخارج.
أي نظام بعثات علمية لدينا، وأية معايير تحكم إرسال الطلاب للدراسة في الخارج؟
أين المسؤولية في نقاش مشاريع بالجملة طرحت من أجل بناء نظام تعليمي موسيقي مدرسي يجعل تعلم الموسيقا متاحا للجميع؟
لماذا الإصرار على عدم وضع مناهج لكثير من المواد الدراسية في المعهد العالي للموسيقا أو ترجمة مناهج مناسبة في حين يترك الأمر لاجتهادات كل أستاذ؟
لماذا يترك غياب الأفراد فراغاً قاتلاً في المواقع، يجعلنا نخسر كل التراكم الذي حققناه ثم نعيد اكتشاف العجلة من جديد؟
أية هوية موسيقية نريد أن نبني بعيداً عن أمراض الأصولية «تحت عنوان الأصالة»، أو العدمية «تحت عنوان الحداثة والتجديد»؟
أين مسؤولية الدولة في تسجيل وحفظ المنتج الموسيقي السوري الجاد، وجعله مع - التراث المخزن تحت الغبار على رفوف مبنى الإذاعة والتلفزيون- متاحاً للجميع؟
ربما يكون أفضل تكريم لراحل، هو محاولة الإجابة على الأسئلة التي كانت تشغله، بل طرح الأسئلة التي لم تسعفه حياته لطرحها.هكذا يبقى هو ونحن أحياء.
«إن البدو يستعملون لفظ الغياب ليس ضمن مفهوم الانطفاء والتلاشي ثم الغياب الكامل، وإنما كتوقيت زمني للدلالة على غروب الشمس. وإن دائما بعد كل غروب وليل، شمساً ستشرق من جديد وسوف يمتلئ الكون بالضياء مرة أخرى»*
*من مقدمة كتاب لوعة الغياب
عبد الرحمن منيف