مات.. بجرعة زائدة!
غرز الإبرة ببطء في ساعده، أراح رأسه على الأريكة وهو يبتسم برضا وحبور، «إنها أفضل من المرة الماضية» همس لنفسه بصوت شبه مسموع، ثم ضحك بصخب تردد في أرجاء شقته الكبيرة الفارغة، بدأ يغيب عن الوعي رويداً رويداً وهو يستسلم لأوامر تلك الحقنة المزروعة في ذراعه، تسارعت ضربات قلبه مع مرور الوقت، لكنه أحس بوخزة مفاجئة في صدره، لم يقو على الحراك، انتفضت قدمه مرتعشة وقلبت الطاولة الصغيرة أمامه، فتح فمه يريد المزيد من الهواء قبل أن يختنق، لكن دون جدوى، هي ثوان فقط فصلت بين الحياة والموت، غادر هذه الحياة بابتسامة زرقاء على شفتيه وبحقنة تتدلى من يديه، إنه ليس الوحيد الذي ترك هذه الحياة الليلة محمولاً على أثير تلك «المادة البيضاء»، لكنه سيتصدر العناوين الأولى في الصباح: «رحل الفنان الكبير.. مات.. بجرعة زائدة».
يعد الممثل «فيليب سيمور هوفمان» من عمالقة السينما الأمريكية والعالمية بشهادة الجميع، حملت سنواته الـ/46/ العديد من الإنجازات التي أكسبته مكانة مرموقة بين النجوم الحقيقيين في عالم السينما، أدواره كانت مميزة على الدوام، مختلفة ومثيرة للجدل والإعجاب في الوقت ذاته، ففي أقل من عشرين عاماً بنى مسيرة فنية مرموقة في السينما فضلاً عن أعماله في التلفزيون والمسرح.
لم يكن «هوفمان» يتصدر أخبار صحف المشاهير والإشاعات، رغم شهرته، لأنه كان يبتعد عن الأضواء والحفلات والسهرات وقلما يشارك في لقاءات صحافية، شغفه الوحيد كان الفن والتمثيل. وكان يأسف للاهتمام المفرط بالمشاهير بدلاً من مشاهدة الأفلام والمسرح. قدم للسينما العالمية أكثر من 50 تحفة فنية إلى أن خطفه الموت بـ«جرعة زائدة» من الهرويين الصافي ووصفته الصحافة الأمريكية بـ«المفاجئ» لينضم إلى قائمة كبيرة من كبار ممثلي هوليوود كان الموت قد عاجلهم بالطريقة ذاتها خلال الشهور القليلة الماضية.
ثقافة.. وجرعات
اختلفت «ثقافة» المخدرات بشكل واضح عنها قبل نصف قرن، أصبحت الجرعات أقوى، والوصول إلى المواد المخدرة أصبح أسهل، والضغط الذي تسببه الشهرة ازداد بشكل كبير، فصار اعتقال شخصيات بارزة أو تعاطيهم المخدرات بجرعات زائدة أخباراً اعتيادية في نشرات الأخبار. كما أن المخدرات التي تستنشق أو تحقن أصبحت أقوى مفعولاً من الجرعات المتوفرة قبل عشر سنوات، مما رفع عدد ضحايا تلك المواد السامة من الشرائح كافة إلى أرقام قياسية.
ولإظهار تأثيرها على الاقتصاد الأمريكي كشفت الاحصائيات أن ما يقارب 57 مليار دولار قد تم انفاقها على المخدرات فقط في عام 1995 وهو مبلغ قد يغطي تكاليف الدراسة الجامعية لأربعة ملايين شخص، وهو تحذير خجول تداولته بعض المنابر الإعلامية المسؤولة في الولايات المتحدة الأمريكي طوال العقد الماضي، محذرة من وجود «تواطؤ» حكومي يستفيد من الأموال الطائلة التي تدرها صناعة الموت هذه، ويفتح المجال لمافيات ترتبط بالحكومة تنشر هذه السموم بين صفوف الشباب، مدعومة بماكينة إعلامية تعمل على الحط من شأن الأخطار الصحية والنفسية التي تتركها هذه المواد بين صفوف الجيل الشاب الأمريكي، فوفقاً لمركز مكافحة المخدرات الوطني فقد دخن نصف طلاب الثانويات الأمريكي «الماريجوانا»، ومن بين كل أربعة طلاب، هناك طالب على استعداد لتجربة نوع أقوى. كذلك نسبة استعمال الهيروين بين صغار السن تزداد بسرعة لم تسجل سابقاً وصلت إلى مليون مدمن في الولايات المتحدة، وفي المقابل تستمر الشاشات باستعراض أخبار المدمنين من النجوم لتتحول تلك العادة المميتة في نظر الشباب الفارغ إلى حالة مشروعة تزيد من الثقة بالنفس وتدخل صاحبها إلى حياة صاخبة لا تعرف سوى الحفلات المثيرة والمغامرات الممتعة.
يكفي القول بأن مؤسسة أكاديمية السينما الأمريكية قد رفضت في أكثر من مناسبة وضع بعض القيود على المشاهد المتعلقة بالإدمان واستهلاك المواد المخدرة، مدعومة بـ«لوبي» إعلامي متمكن يضغط في كل مناسبة للاستمرار بتمرير مثل تلك المشاهد مضافاُ إليها بعد مشاهد الإدمان على الكحول، وللعلم فقط، نحن لا نتحدث عن بعض مشاهد الثمالة العابرة، ولا نتكلم عن تحريم الكحوليات على الشاشات، فقد تعالت الكثير من الأصوات عندما كان الكحول نجم بعض البرامج الكوميدية المباشرة التي يرفع فيها المقدم كأسه قبل كل فاصل إعلاني داعياً المشاهدين لمشاركته القليل من الشراب ريثما تنتهي ذلك الفاصل، لتغزو بعدها إعلانات الكحوليات كل بيت على طوال الساعة، فعلى الجميع ان يبقى تحت تأثير المخدر لكي يتحول بسهولة إلى آلة مستهلكة مسلوبة الإرادة.
أنت بخير..
يقولون: «جرعة زائدة»، لكن هذا الوصف يحمل الكثير من المعاني المبطنة، وكأن الجرعة «العادية» لا تسبب الموت، فإن لم تكثر من استنشاق أو شرب أو دهن أو حقن تلك السموم، ستكون عندها بخير، هذه هي الحال في أمريكا، فإن كنت من كبار مشاهير هوليود او من عظماء الرياضة أو الفنون، فلا داعي لأن تقلق على الإطلاق، ستعود عليك هذه العادة المميتة بالكثير من الدعاية المفيدة والكثير الكثير من الاهتمام، ستزور إحدى «مصحات العلاج من الإدمان» فتصبح تلقائياً محط اهتمام العدسات وحديث الملايين من مدمني مواقع التواصل الاجتماعي.
وأنت أيها المشاهد الضائع، قد يسعفك الوقت لرؤية لقاء تلفزيوني لأحد المشاهير يتحدث عن «تجربته الخاصة» مع الإدمان، دون أن يخطر ببال أحد أن يقارن بين ما قد تفعله قوى القانون في أمريكا مع المدمنين العاديين من «عامة الشعب» وبين ما قد تفعله من ليّ وقفز فوق نصوص القانون كرمى لعيون تلك الممثلة أو ذلك النجم، إنه عالم وهمي آخر تنسجه العدسات والشاشات من خيوط براقة، إنه الواقع المشوه المتعمد الذي يضع عقول الأمريكيين في مكان بعيد جداً عما يجري بحق في هذا العالم.