البديل السينمائي من البرازيل
يستمر تراجع وانحطاط المؤسسات الثقافية المختلفة والتي عبرت ثقافياً عن الهيمنة الأمريكية في السابق لكن تراجع هذا النوع من الثقافة التي شكلت لسان حال الشركات العابرة للأمم والمؤسسات الصهيونية الثقافية لم يصل إلى ذروته بعد
خلال تراجع المعادل الثقافي للهيمنة الأمريكية تبدو البذور الجنينية الأولى لصعود معادل ثقافي آخر يعبر عن القطب الصاعد الجديد «البريكس» ويحمل في طياته بذور المعادل الثقافي لما بعد البريكس وانعكاس مباشر لأفكار العدالة الاجتماعية
تشكل السينما البرازيلية الجديدة تعبيراً عن أحد البدائل السينمائية الصاعدة والتي ستحل محل السينما الهوليودية وكل أشكال السينما الاستهلاكية التي تمارس تحطيم الهويات الوطنية للشعوب وتسبب الاغتراب للإنسان ويحمل الفيلمان البرازيليان «فرقة النخبة» و«مدينة الله» اللذان اعتبار من أفضل الأفلام البرازيلية منذ سبعة أعوام الكثير من المفاهيم الفلسفية والسياسية لهذا البديل السينمائي الصاعد في البرازيل.
«فرقة النخبة»..
فيلم «فرقة النخبة» عرض لأول مرة عام 2007 وأصبح من أكثر الأفلام شعبية في البرازيل، حيث شاهده ما نسبته 77 % من السكان في ريو دي جانيرو وساو باولو وبيعت منه ملايين النسخ حول العالم من إخراج البرازيلي «خوسيه باديلا» وسيناريو البرازيلي «براوليو مانتوفاني» وهو يصور المعارك الجارية بين عصابات الأحياء الفقيرة وفرقة النخبة وهي فرقة أمنية خاصة للإغارة على الأحياء الفقيرة ومطاردة العصابات على غرار فرق «السوات»، فرق القمع والموت الأمريكية.
يشرح هذا الفيلم بإيجاز كيفية تعاون كبار ضباط فرقة النخبة والشرطة وأباطرة المخدرات في ريو دي جانيرو، وشكلوا معاً أحد أركان الطبقة البرجوازية الفاسدة الحاكمة حيث يتلقى كبار الضباط الرشوة لقاء تغاضيهم عن تجارة المخدرات في الأحياء الفقيرة كما أن كل الحملات التي تشن على الأحياء الفقيرة وكل الدم المراق فيها من فرقة النخبة هدفها الأساسي حماية مصالح المرتشين وتجار المخدرات وليس القضاء على العصابات كما يعلن رسمياً.
في مرحلة من الفيلم يصبح ابن قائد فرقة النخبة ضحية لهذه الطبقة الفاسدة ويتعرض لإطلاق النار فيقوم هذا القائد بالتحالف مع قوى اليسار ويبدأ معهم حرباً على الفساد وممثليه.
يعكس الفيلم بشكل عام أفكار فلسفية راهنة في القرن الواحد والعشرين مثل تحالف المجرمين والفاسدين داخل وخارج جهاز الدولة وممارسة هؤلاء للقمع الدموي تجاه الأحياء الفقيرة باسم محاربة الفساد والجريمة حماية لفسادهم وجرائمهم والحفاظ على الشكل الغير العادل لتوزيع الثروة اي صناعة التناقضات والثنائيات والوهمية لإخفاء التناقض الأساسي والثنائية الأساسية.
كما يعكس الفيلم فكرة فلسفية جديدة وهي الثورة من فوق أي قيام تحالف بين قوى اليسار والضباط الوطنيين داخل جهاز الدولة ومن ثم إعلان الحرب على الفساد وإزاحة الطبقة الفاسدة عن التحكم بتوزيع الثروة وبالتالي إزاحتها عن السلطة وهي الفكرة نفسها التي رافقت الثورة البوليفارية في فنزويلا، والفكرة نفسها التي نادى بها حزب الإرادة الشعبية في سورية منذ الأزمة والتي تشكل صوراً جديدة للثورة في القرن الواحد يختلف عما كان سائداً في القرون الماضية وهي كسر مقاومة جهاز الدولة من خارجه يعرض الفيلم هذه الفكرة الجديدة بشكل مثالي فاليسار هنا رجل حقوقي واحد والضباط الوطنيون هنا ضابط وطني واحد ولم يجر تصويرهم كطبقة تحل محل طبقة.
«مدينة الله»..
فيلم مدينة الله من إخراج البرازيلي «ألفريد مايرليس» وكتب السيناريو «براوليو مانتوفاني» وأخذ نصها من 700 صفحة لرواية باولو لينو تحمل الاسم نفسه بشكل فيلم يستغرق عرضه ساعتين.
«مدينة الله» هي حي من الأحياء الفقيرة في مدينة ساو باولو يعيش فيها فتيان صغار يركضون في شوارع مشروع إسكان مدينة اللّه، وهم يحملون الأسلحة بأيديهم يشكلون عصابات متناحرة تتاجر بالسلاح والمخدرات في واقع سيطر على هذا الحي من انعدام فرص العمل والفقر المتوحش والإنحلال الأخلاقي وانتشار الجريمة.
يعرض الفيلم كيف تقوم الطبقة الفاسدة من كبار ضباط الشرطة ببيع الأسلحة إلى مختلف العصابات وإدارة صناعة حرب المخدرات بين هذه العصابات نفسها في الأحياء الفقيرة فالمهم هنا هو استمرار تدفق وتكدس الثروات لدى هؤلاء الضباط ولا يهم من يموت من الطبقة الفقيرة في سبيل ذلك.
في لحظة ما من الفيلم يقوم شاب من «مدينة الله» يهوى التصوير الفوتوغرافي ويعمل موزعاً في إحدى الصحف المحلية في ساو باولو أثناء اشتداد الحرب بين عصابات ضاحية مدينة الله بتصوير عمليات قيام الشرطة بتزويد العصابات بالسلاح وفي كل مرحلة تختلف نوعية الأسلحة بحيث لا يستطيع طرف الانتصار على طرف ولكن تؤمن هذه الأسلحة استمرار الحرب التي أثرت الفاسدين وكدست ثرواتهم.
تقوم الصحيفة المحلية بنشر الصورة في الصفحة الأولى وتحدث ضجة تطيح ببعض ضباط الشرطة هؤلاء، فيصبح المصور المطلوب رقم واحد للضباط الفاسدين وتبرز هذه الصورة أهمية حرية الصحافة في محاربة الفساد والجريمة ولكنها عرضت بصورة مثالية أيضاً، وصورت محاربي الفساد كأشخاص وليس كقوى تمثل الطبقة المتضررة.
كلمة أخيرة
كتبت الصحفية الأمريكية النيويوركية «كريستي ليماير» أن فيلم «مدينة الله» فيلم برازيلي فائق الوحشية والواقعية وسلطت الصحافة الأمريكية هجوماً على هذه الأفلام وبشكل خاص تلك الأفلام التي تصور الواقع كطبقات متناحرة والأفلام التي تجسد الهويات الوطنية للشعوب وتتصدى للهيمنة الأمريكية وتنتج بدائلها الثقافية.
البدائل السينمائية المطروحة للسينما الاستهلاكية المهيمنة حالياً تظهر بأشكالها الأولى في البرازيل تعبيراً ثقافياً عن صعود البرازيل ضمن البريكس وصعود الهويات الوطنية لشعوب أمريكا اللاتينية.