خُلق لينتظر
يصمت فجأة صوت ضجيج الحياة، «انقطعت..!» يصيح شادي من الغرفة الأخرى، كنت في المطبخ، علمت أنها الكهرباء، لكنها انقطعت اليوم بتوقيت مختلف عن البارحة. دخلت إلى الغرفة فرأيت شادي متكئاً على الأريكة، وعيناه لا تزالان تنظران باتجاه التلفاز الذي كان يبث صوتاً وصورة مانحاً بعض المواساة الافتراضية كتعويض عن الحياة الواقعية التي لم تعد في الحقيقة حياةً بقدر ما أصبحت حالةً من «الموت النفسي البطيء».
يقاطع شرودي في تلك اللحظة صوت مزعج، يصيح شادي مرة أخرى: «هوو هوو علينا .. ناقصنا المولدة .. ما بكفي انقطعت الكهريا .. ولا ما بصير نرتاح أبداً». أجيبه مواسياً: «طول بالك .. بعد شوي بتتعود عالصوت.. ع شو كنت عم تتفرج من شوي؟» فيقول : «برنامج عن الحياة البرية اسمو «خُلق ليفترس»».
كنت مولعاً بالحياة البرية، لذلك صمتت كل الأصوات في عقلي، ولم أعد أرى أو أسمع شيئاً، كررت الجملة بيني وبين نفسي : «الحياة البرية...» فكرت: «وما نعيشه اليوم أليس هو الحياة البرية بعينها؟!».
ربما وجدنا اليوم أنفسنا أكثر برية وبربرية من تلك الحيوانات التي نتفرج على تفاصيل حياتها ووحشيتها في الغابات، ولكن البشر يغلفون بربريتهم بمظاهر «حضارية» ليس أكثر، مدن وأبنية وسيارات، تكنولوجيا حديثة...الخ ويبقى التعامل مع الناس من أولئك الذين يتحكمون بالقرار هو الأكثر بربرية من الكل.
وتستطيع هنا أن تصنع بدل الفيلم أفلاماً كثيرة، عن وحشية الإنسان، وخطر لي أن السوريين يعيشون فيلمهم الخاص ربما سيكون اسمه «خُلق لينتظر» وأحداثه بسيطة ليس فيها تعقيد إنها الحياة العادية لأي مواطن سوري، فما من عمل يتم دون انتظار، فالأعمال التي كانت غايةً في السهولة سابقاً باتت اليوم تشكل عبئاً حقيقياً، وأصبحت كل الأمور تُقاس بمقياس واحد «كم سأنتظر؟».
كم سننتظر على الحواجز وفي الفرن وعند محطة الحافلات، وكم سننتظر الكهرباء أو خبراً عن مفقود أو مخطوف أو معتقل، وكم سننتظر الموت؟
إن هذا الانتظار ليس عبثياً كما يبدو، بل إنه انتظار مقصود حيث هناك من يريد لنا أن ننتظر كل شيء إلا الحل الحقيقي لكارثتنا الموجعة، وأن نستمر في حالة الانتظار والترقب هذه وصولاً إلى المرحلة التي نقبل فيها بأي «حل» حتى لو مس هذا «الحل» كرامتنا.
ربما عندما سيجري إدراك هذه الحقيقة تتغير أحداث الفيلم وربما نهايته أيضاً فبدلاً من «خُلق لينتظر» سيصبح «خُلق لينتصر».