المثقف والدور الوظيفي!
تتلازم حركة الثقافة مع الحركة الاجتماعية، ولذلك لا يمكن تفسيرها وتحليلها إلا في ضوء الحركة نفسها، فمثلاً الأدب مفرز اجتماعي, ونجد الآداب، في إطار تطور الأدب العالمي، بمختلف فئاتها تقدمت في فترة الثورة البرجوازية منتصف القرن التاسع عشر (فترة التقدم التكنولوجي والتقني) كذلك نجدها أيضاً ازدهرت إبان مرحلة حركات التحرر الوطنية وأنتجت أدباءها الملتزمين أمثال حنا مينا , صنع الله ابراهيم.. الخ.
هناك علاقة وثيقة بين الوضع السياسي والأدب بشكل عام، لا يقتصر على النطاق المحلي وأمراضه الاجتماعية بل يتعداها إلى الوضع العالمي، فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتشار العولمة وهيمنة القطب الواحد لم نجد أحد من مثقفينا يتحلى بالجدية الكافية لمواجهة الواقع الجديد. والأهم أن المثقف لم يعد قادر على مواجهة قراءه وجمهوره نتيجة عدم التعمق في رؤية الواقع وإلى اليوم نجد تلك الطبقة من المثقفين يعيشون بمرحلة من التخبط والاضطراب والهزيمة، العديد من لباسي الوشاح «الأحمر» ممن يتغنون بالظاهرة الثورية الدينية وطاقتها الكامنة، فغدا المنظر الثقافي كرنفالاً مجنوناً نعيش تأثيراته للآن, قلما نجد ذلك المثقف القادر على القيام بدوره الوظيفي المفترض في نشر الوعي من أجل التغيير وما أكثر المثقفين «المنظرين» الذين ما زالوا متأثرين باضطرابات المرحلة السابقة وضائعين في متاهاتها.
أنصاف حقائق وجمل انشائية!
وعلى صعيد المسرح نجد أعمال «سعد الله ونوس» رغم نهاياتها السوداوية ممزوجة بوميض متفائل رآه سعد الله مشروطاً بقدرة الإنسان على فهم حقائق الصراع وتناقضاته وصولاً لتجاوزها.. وإذا كانت الأزمة السورية قد فرخت أزمات عديدة على المستوى الإنساني تبقى هناك أزمات من نوع آخر لا تقل أهمية، منها أزمة المثقفين.
قدم «سعد الله» كثير من الوصف لهذه الحالة في هوامش ثقافية «مثقف ال عن .. و عن» عام 1992 وضمنها شرح كافي، ولكن بقليل من الاختصار من قبلي «هناك من دعاة التثقيف يغشونا ويغرسون في اذهاننا انصاف الحقائق وجمل انشائية فقط وهذا يدل على عدم فهم من يدعون الثقافة بمفهومها العميق السليم او عدم قدرة على الربط بين كتاباتهم والواقع نتيجة ابتعادهم عن الواقع وهذا في حال أخدنا الأمور بحسن نية .... فمن هم «مضللين ثقافياً» لا يفعلون شيئاً سوى أنهم يؤكدون تلك المعادلة التي تعاني منها الثقافة في البلدان النامية، وتتمحور على أن المناخ المتخلف ينتج فكر متخلف سطحي ليعود هذا الفكر ينعكس على الواقع فينتج واقع أكثر تخلفاً... بينما المثقفون الحقيقيون يرون أنه كلما ازددت معرفة ازددت شعوراً بالجهل, لكن الثقافة الاجتماعية لا تقوم فقط على المعرفة النظرية بل تتعداها لتصل لمرحلة الربط بين ما هو نظري وعلاقته المباشرة مع الواقع بجميع تفاصيله، فعلى جميع من يدعي التثقيف أن لا ينظر لكتابته على أنها إلهام سحري قد حل عليه بل كمسؤولية ملقاة عليه تقتضي منه الفهم الحقيقي للمجتمع»،
الملك هو الملك!
في مسرحية «الملك هو الملك» طرح مهم للغط يعاني منه اليوم وعينا الجمعي في تحليل بنية السلطة في المجتمعات الطبقية، لا سيما البرجوازيات المعاصرة، وقد رأينا من أحداثها أنها مع تغير الملك بعملية تنكر كان لها دلالاتها عند «سعد الله» ملخصة في أن «المجتمعات الطبقية ما هي إلا سلسلة معقدة من عمليات التنكر، تتجرد نهاية بشخصية الملك»، وتبدأ المأساة عند توهم الحاكم أنه قادر على الاستمرار والعودة إلى ما يحلو له بعد التخلص من رموز حكمه «الصولجان -العرش - الحاشية» فالحاكم في المجتمع الطبقي ليس له فعالية بل يستمد هيبته من القوة التي يمثلها وما هو إلا تجريد شكلي لذا فإن تغيير ملك بملك آخر لا يغير شيئاً في بنية هذه الأنظمة.
الأدب والتغيير الحقيقي!
أن التغيير الحقيقي يكون في بنية المجتمع والنظام من وجهة نظر اقتصادية هو وسيلة لتوزيع الثروات، ومن وجهة نظر اجتماعية هو مستوى العدالة الاجتماعية، ومن وجهة النظر السياسية هو درجة التعبير عن إرادة الشعب وتحويلها إلى واقع موضوعي، «تغيير الدولة، تغيير المجتمع، تغيير العلاقة بينهما» مثلث التغير الحقيقي, لكن تبقى المشكلة الجوهرية التي تواجه مجتمعنا عجزه عن التكيف مع الواقع.
حاول سعد الله في عدة مسرحيات التطرق الى هذا ولو جزئياً «طقوس الإشارات والتحولات» « يوم من زماننا « اننا نعيش في حالة تحول شامل للقيم والعادات والأخلاق, تحول ثوري حقيقي لا قشري لأن الثورة الحقيقية تتمحور حول فهم المجتمع بهدف تغيير حيوية جوهره لأن المجتمع ليس حالة سكونية بل كيان متطور و متحرك لا يؤطر ولا يجمد. وفهم مجرى حركته يصلنا لتحقيق التغيير الذي يصب في مصلحة الشعوب وعملية التغيير تشمل توترات وهزات بالضرورة لأنها مخاض ولادة مجتمع جديد لذا وجب أن تبقى موضوعة فهم التحول والتكيف مع تغيرات المجتمع بعيدة عن الجمود العقائدي والصنمية الذي تؤدي في النهاية لضياع وخيانة العقيدة نفسها.
إن التطور كالتيار الجارف إن لم نواكبه لا مكان لنا فيه، ولا يمكن أن ندخل في حركة تطور جديدة وأن نستخدم ألفاظ ومصلحات ومفاهيم عصر مضى.
حكم «سعد الله ونوس» علينا بالأمل ولكن جملته المشهورة نفسها خضعت لقوانين تطور المجتمع ولحركة التاريخ ولو كان الآن معنا كان سيرى ضوء الانتصار بدأ ينير آخر النفق ينادينا ويحكمنا بالذهاب إليه.