(المجتمع المدني)
لا وقت للحديث عن برامج سياسية – اقتصادية واجتماعية..!!. لا وقت للحديث عن ضرورة التوزيع العادل للثروة...!! لا متسع لديهم للحديث عن القضية المركزية..!! الق ما تحمله من تلك الشعارات «المملة» واحمل «حقّك» واتبعني، دون أن تسألني حتى عن ماهية هذا «الحق» أو ذاك، فقط انظر إلى تلك المجتمعات واتبعني...!!
يستحيل «رصد» سيل مراصدهم أو إحصاؤها، مرصد ٌ لحقوق الإنسان وآخر لحق الزواج المدني وثالث اختص برصد المرأة وتعقب «خطاها» أو ربما حقوقها.....!! خلافهم الوحيد اقتصر على عنوان أو لافتة «المرصد» فاختار كلٌّ منهم «حقه» أو «اختصاصه الحقوقي..!!»، يصعب حصرهم أو تسميتهم فكل ٌّ منهم يأبى إلا أن يكون تياراً أو حركة اعتبارية بحد ذاته، لا تقبل الولاء لأحد، ربما لتضمن استقلالية تسمح لها بآن أو بآخر كيل الشتائم يمنة ويسرى، دونما قدرة من أحد على تتبع ذاك السيل الجارف من الغضب...!! أو الكبرياء...!! أو التناقض الذي قد يصل إلى حد أمراض الشيزوفرينيا ..! فقط تسلحوا بالمدنية فهي الوسيلة والغاية المنشودة، هي البرنامج والهوية والمستقبل، ففي لفظ «المدنية» ما يبعدنا حتما ً عن إيقاع «الصحراء» الموروث والمتخلف...
المجتمع المدني «غربياً»
ليس الإنسان بكائن «اجتماعي» وحسب على حد تعبير أرسطو وإنما هو «مدني» الطبع على ما يقول الفيلسوف ابن خلدون، وانطلاقاً من هاتين المتلازمتين تبرز مقولة «المجتمع المدني» بمفهومها العام والشامل، كثمرة من ثمار تطور المجتمع الإنساني لحظة انفصاله عن الطبيعة، والدخول في صراع معها بغية السيطرة عليها وتكييفها لتلبية حاجاته الضرورية، ولما كان العمل وأدواته هو المحدد الأساسي للتعبير عن انفصال الإنسان عن الطبيعة ومحاولته السيطرة عليها، يصبح التمدّن والمدنيّة خاصية متأصلة في المجتمع الإنتاجي - كل مجتمع إنتاجي - وسمة ضرورية وقيمة حضارية وإنسانية عليا، تسعى إليها كل المجتمعات، وهي وإن أجمعت عليها كل المجتمعات البشرية إلا أنها تختلف باختلاف مستوى تطور هذا المجتمع أو ذاك، فيبرز تبعاً لهذا الاختلاف التباين بين المجتمع المدني بمفهومه العام والواسع، وبين المجهود العقلاني العصري للتحرر الحديث لتحقيق المجتمع المدني باعتباره صفة جوهرية وتاريخية من صفات المجتمعات الحية السائرة في دوائر ودوران التطور والتقدم.
وفقاً لما سبق أتى مفهوم المجتمع المدني لدى الغرب إبان تحقيق ثورته البرجوازية ليعكس بمضمونه منظومة اجتماعية – ثقافية تحررية، بديلة عن المنظومة القائمة المتهالكة آنذاك - الكنيسة بشرعيتها ومشروعيتها – وليجسد هذا المفهوم الصراع الثقافي الدائر بين القوى التقليدية المحافظة - النظام البطريركي الفلاحي بكل مفرزاته الاجتماعية المعرفية والثقافية والفكرية – وبين قوى التغيير - البرجوازية ومنظومتها الاجتماعية الثقافية – في حينه.
وعليه أصبح المجتمع الرأسمالي أو الصناعي هو التعبير التاريخي عن المجتمع المدني بين مختلف المدارس الفكرية سواء داخل النظرية الليبرالية بكل تفرعاتها، بدايةً من عصر النهضة والأنوار، باعتبارها التعبير التاريخي العام الفلسفي الأيديولوجي والسياسي الاجتماعي عن المجتمع والدولة في العالم الرأسمالي الحديث والمعاصر، أو بين الليبرالية والمدرسة الماركسية الكلاسيكية في عصرنا هذا.
المجتمع المدني «عربيّاً»
يبقى المجتمع المدني كما غيره من الاصطلاحات والمفاهيم الكبرى «المدنية والحرية والعلمانية والديمقراطية و.. و.. الخ» أسير الاستهلاك و«التأورب» من ناحية أو حبيس تلك الأنظمة ـ السياسية الاجتماعية - المهترئة من ناحية أخرى.
فالمجتمع العربي يعتبر مجتمع ما قبل صناعي، ومن هذا المنظور مازالت المشروعية العلمية للمجتمع المدني تسيطر عليها قواعد ومؤسسات وموروث المشروعية القدسية والدينية، والتي تشكل هي الأخرى نمطا ً ونظاماً متكاملاً من العادات والقيم والقوانين والأخلاقيات والسلوك التي تحدد العلاقة بين الأفراد والمجتمع، وعليه فإن أي استنساخ عربي لتلك القوالب الغربية سيجعل منها مجرد استهلاك ومحاكاة مشوهة للنموذج الغربي، لا تتناسب وإشكاليات مجتمعاتنا، ولا تلبي مستوى حاجته ورغبته في إيجاد البديل المناسب لمنظومته البالية على المستويات الاقتصادية والسياسية الاجتماعية كافة.
أما العامل الآخر والأكثر تعقيداً – نظرا لتأثيره المباشر في طبيعة المجتمع ومنظومته الثقافية السائدة – فيتعلق بالبنية الاقتصادية – الاجتماعية للبلدان العربية والتي تعطينا صورة واضحة بدورها عن الاستحالة التاريخية للمشروع البرجوازي القومي، بحكم أن الطبقة البرجوازية العربية الحاكمة ليست بطبقة اقتصادية منتجة، بل هي من نمط طبقة كومبرادورية مندمجة كلياً في النظام الرأسمالي العالمي، ومتكيفة مع مقتضيات وآليات وشروط توسعه عالمياً، عبر تجسيدها سياسة الانفتاح الاقتصادي ونمط الاستهلاك الغربي والرجعية السياسية والتبعية الكاملة، تلك التبعية التي من شأنها قولبة تلك المفاهيم لمصلحة هذه الأنظمة المتهالكة وحليفها الغربي الأكبر، ومن نماذج هذه التبعية ما نراه اليوم من منظمات مجتمع مدني على امتداد مساحة الأقطار العربية باختلاف مناخها وظروفها السياسية، كما المنظمات المدنية الفلسطينية «NGO» والتي تسمح بالنضال ضد العدو الصهيوني بكل الأشكال باستثناء «الكفاح المسلح»...!! أو المنظمات المدنية المتشكلة حالياً في بعض البلدان العربية، والتي أخذت على عاتقها اتباع سياسة «النأي بالنفس» عن القضايا الطبقية والوطنية الشائكة التي تواجه مجتمعات هذه البلدان ...!، ولتعتبر نفسها هي الأخرى البديل الوحيد للمنظمات ما قبل المدنية «العشائرية والطائفية والقبلية و...الخ»، في حين أن التاريخ والشواهد تثبت ضرورة هذه المنظمات كدور ثانوي إلى جانب الأحزاب السياسية الفاعلة والتي من شأنها مجتمعة ً أن تسد الفراغ المجتمعي الذي عانى منه أبناء المجتمع العربي منذ عقود لتبعد بالتالي هذه المجتمعات عن أشباح تلك الانتماءات اللاوطنية.....
«ناشط مدني»..
تحتل اليوم تسمية «الناشط المدني» مكانة واسعة في معظم المنابر الإعلامية العربية منها والغربية، احتلالاً لا يتناسب وحجم معرفة أبناء هذا المجتمع بحقيقة المجتمع المدني وما يحيط به من إشكاليات وحقائق، وفي وقت تشتد فيه حاجة بلدان هذه المنطقة إلى إيجاد البدائل السياسية الاجتماعية المناسبة، والكفيلة بوضعها في مسار التطور الصحيح. تبقى الكثير من التساؤلات توجه إلى أسباب تلطي هذه المنظمات وراء عناوين عدة لا تبين مدى جدية برامجها المتبناة، خاصة ً وأن تلك البرامج تلقى ما تلقاه من حسن «التمويل» من الغرب المستعمر وأعوانه، وحسن «الضيافة» من الكثير من الأنظمة العربية البالية، حسناً قد لا تلقاه الأحزاب السياسية وبرامجها الناشئة..!!؟؟.