«على هذه الأرض ما يستحق الحياة»..
أسهر طوال الليل مشغول البال، لا شيء يعجبني، تساؤلات وأفكار، لماذا نعيش؟ صديق في المعتقل وآخر استشهد، حاولت كثيراً إيجاد طريقة تخفف عني آثار هذه الحرب النفسية المعلنة ليس علي فقط، بل على الجميع، فبعد كل مأساة هناك مأساة
بحثت مطولاً عن شيء يحثني على الابتسامة ونسيان الألم.. ما زلت شاباً في مقتبل العمر، لدي أهداف وأحلام يجب أن أحققها والدنيا لن تقف لأجلي.
إلى تلك الليلة، التي انتفضت فيها من فراشي، «لم أعد أحتمل هذه الحال» تمتمت حائراً، ممسكاً بهاتفي الجوال.. لن أتصل بأحد، تسليت بفتح الملفات، أفتح واحداً وأغلق آخر، وجدت بالمصادفة مقطوعة لأحد عازفي العود الماهرين يرافقها قصيدة لشاعر عربي كبير أيضاً، بدأت أنغام العود تتسرب إلى أعماقي وهمس الشاعر في أذني «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» وكأنه يربت على كتفي، سرقت وسادة أختي المريحة من تحت رأسها واتكأت عليها، كانت كلمات الشاعر بارعة في التسلل خلسة إلى داخلي حيث يرتكز الألم، ربما لأنها الوحيدة التي فَسَرَت لي معنى الحب الخالص، أغمضت عينيّ أشعربالسعادة، كل ما أردته يتحقق أمامي.
بدت أنفاس حبيبتي في زجاجة عطر، وأطفال العالم سعداء، لا استغلال، لا حروب، لا مجاعات، لا أشلاء، رأيت نفسي أراقص أوتار العود ثم أعانق الضحى، ومن دون شعور تتحرك أصابعي مع الأنغام، ويهتز رأسي، أغازل أزهار اللافاندا في زاوية الليل، وتغرق مقلتاي بعتمة شعر أشقر متدل من القمر.
وكلما قسا العازف على الأوتار أشعر وكأن أحداً يصفعني على وجهي، نزلت دمعة ثقيلة من عيني.. ليس ألماً من الصفعة لكن حزناً على أوتار العود، صرت أسرف أكثر بتلك الأحلام، فلا أحد يحاسبني، لا أحد يشعر بي أصلاً، وأحلامي تتحقق، واحداً بعد الآخر، السماء تمطر شلالاً من العيون الزرق، وجروح جسدي تلتحم رويداً رويداً، إنها الفردوس حقاً.
ومع أول صوت أطلقه العصفور صباحاً، لملم الشاعر وعازف العود أغراضهم وهربوا.
ابتعدت أهدابي عن جفني واختفت عتمة الشعر الأشقر، وتفتحت الجراح من جديد، وانكسرت زجاجة العطر، وأكسبتني شظايا الزجاجة جرحاً جديداً.
إنه الواقع الآن! أطفال جائعون، آلات الحرب في الخارج، أشلاء، دماء، شهداء، استغلال، عقرب الساعة يمشي والآخر يهرول، والثالث يركض، فلا مجال للأحلام، تصارعت مع عضلات وجهي لأرسم ابتسامة كاذبة، صنعت القهوة فاختلطت رائحتها بغيمة بارود وما تبقى من ندى أنفاس حبيبتي على الزجاجة، شربتها رغماً عني، وخرجت للواقع البشع، وانتظرت لينام الجميع، ويأتي الشاعر وعازف العود مجدداً