مفارقة بسيطة.. خبر عاجل
التاسعة مساءً, الكهرباء مقطوعة فهذا وقت التقنين, يمارس أخي الصغير وأصدقاؤه طقوسهم الخاصة على سطح منزلنا, إذ يجتمعون عندما يُقطع التيار الكهربائي ليلاً ويسود الظلام, يجدون متعة بإرهاق عيونهم ورؤوسهم في التحديق إلى السماء وتحديد مكان طائرة «الميغ».
مخيم اليرموك يتربع جائعاً نحيلاً على بعد مئات الأمتار, لا أحد في الشارع سوى أناس يلبسون بذات عسكرية, وبعض الشبان من أصحاب القلوب التي لا تخاف, وأنا من بينهم, فأنا لا أطيق الجلوس في المنزل, فما بالكم إن كان مظلماً, في البداية كان عدد الشبان الجالسين على عتبات البيوت اثنين أو ثلاثة, لكن العدد يزداد تدريجياً.
إما المدفعية فكعادتها تعزف أنغاماً شاذة لايرقص لها إلا النوافذ, و البذات العسكرية.
تطلُ بعض النساء من النوافذ للاطمئنان على أبنائهن, فالسيارات السوداء «يلي بلا نمرة» تجوب المكان, وتطل أخريات ليجرين حديثاً «لاسلكياً» مع الجارات على النوافذ المقابلة تماماً, يجري الحديث بصوت عالٍ, ربما قررت هؤلاء النساء توجيه رسالة عفوية لتلك المدفعية, يقلن فيها إن المساء للصوت الجميل للرقيقات «فيروز وأم كلثوم».
أقف عاقداً حاجبي، حانياً ظهري، وبيدي فنجان قهوة أبلل شفتي برشفة منه بين الحين والآخر.
بقي دقيقتان.. لننعم بعودة الكهرباء من جديد, صوت الرصاص ينضم لسيمفونية الحرب التي تعزفها المدفعية, الرصاص يعلو.
اختفت ظلال الشبان, تلاشت أصوات النساء, نزل الصغار من على السطح, لم أعد أرى سوى الغبار، ولم أعد أسمع سوى أصوات أقدام تدب على الأرض بقسوة, الناس تركض باتجاه الشارع العام. ماذا حدث؟! يبدو أن قذيفة سقطت هناك, لم يبق رجل في منزله, خرج الجميع ليطمئن على الجميع, تقاسيم الوجوه لا تعبر عن خوف بقدر ما تعبر عن الدهشة والغضب, لا إصابات، الأضرار مادية, الرجال منشغلون بالتحليلات السياسية، وتفسير مصدر تلك القذيفة، والسؤال الذي انشغل به الجميع من عند «النظام» أم من عند «المعارضة»؟؟!
جعلت هذه السفسطة الناس ينسون سقوط القذيفة منذ دقائق في هذا المكان..!!.
ها هي أعمدة الإنارة الهرمة ترسل أضواء متقطعة على شيء من الطريق..
عدت إلى نفسي.. اليوم هو اليوم الوحيد الذي يأتي فيه التيار الكهربائي دون صيحات الأطفال, وزغاريد النساء..!! وضعت لفافة تبغ بين شفتي, سرقتُ نظرة خاطفة على أحد الشبابيك, حيث تقف «الفتاة التي لأجلها أكتب قصائدي»، نظرة تطمئنها أنني مازلت حياً, ودخلت المنزل , تمددت على الأريكة, فتحت التلفاز: «خبر عاجل».. «قذيفة هاون في تل أبيب, حالة ذعر, المستوطنون في الملاجئ, وصفارة الإنذار تدوي في الأجواء».