الشهداء الأحياء

الشهداء الأحياء

صديقي هواية عجيبة.. تختلف عن المألوف من الهوايات.. فقد اعتاد تجميع ما يجده في طريقه من مقذوفات وفوارغ الرصاص يلتقطها من على الطريق، دفعته الوحدة والانتظار الذي يعيشه وولعه القديم بالأشياء العسكرية للبحث عنها في الطرقات وتجميعها..

يتوقف عند كل رصاصة.. يتأكد من أن أحداً لن يراه.. محاولاً ألا يلفت الانتباه.. ثم يخطفها ويحتفظ بها.. بظن منه أن اقتناء هذه «الأشياء» جريمة لا تغتفر.. في إحدى المرات جرب أن يأخذها أمام الآخرين.. أدار الأمور في عقله قائلاً في نفسه: «لست مجرماً، ولست من أطلقها، المجرم من أطلقها، وكان يعرف من ستقتل، وأين ستسقط؟» حزم أمره وألقى بالرصاصة في جيبه.
كبرت مجموعته وازداد عدد الرصاصات والمقذوفات، بأنواعها المختلفة.. من «الكلاشينكوف» إلى مقذوفات رشاش «بي كي سي» وغيرها.. سألته وأنا  أتفحص مجموعته الواسعة: «ما هذه الهواية الغريبة؟ ما الذي تريده من تجميعها؟؟».
« أجمعها بلا هدف» أجاب وهو يمسح الغبار عن طلقة قديمة «لا يدفعني سوى حبي للأدوات العسكرية ولكنني اليوم عندما أتأمل مجموعتي هذه، تخطر في بالي الكثير من الأفكار».
سألته مستغرباً: «ماذا تعني؟».
«هذه الرصاصات يا صديقي أرحم بكثير من أخواتها، لقد أخطأت هدفها وتمردت على إرادة صاحبها، قدمت الحياة بدلاً من الموت» أجابني على عجل، وتركني أعاود التأمل في مجموعته ، لكن كلماته بقيت عالقة في رأسي.
«تحمل كل من تلك القطع المعدنية قصة مثيرة، ترى من أطلقها؟ ولماذا؟ هل يجوز أن تسلب تلك الرصاصات حياة أحد؟ هل يبدو القتل بها عادلاً؟ من الشهيد ومن القتيل؟.. ومن القاتل؟».
غرقت مع جميع تلك الأفكار حتى أيقظني صوت التلفاز، ترك صديقي ما في يده ليرفع الصوت، مشاهد قديمة جديدة لأناس تبحث وسط الغبار والركام والدموع عن أشلاء أحبائها، تذكرت رصاصات صديقي، شعرت بقليل من الخجل، فالأسئلة الكبيرة تدور في البال بعيداً عن هموم البسطاء من الناس، فهم يموتون يومياً دون رصاص، ومن لم يمت به مات قهراً وحزناً وهو على قيد الحياة، لا رحمة لأحد، والكثيرون ماتوا ويموتون كل يوم.. يتحملون بضيق كل الثقل الذي رمتهم به الحياة، أولئك الذين يموتون في اليوم أكثر من مرة من الذل الذي يعيشونه ربما يستحقون لقب الشهيد.  
من ذبح ابنه أمام عينيه، من دمر بيته وشقاء عمره، من تهجر في بلده وأصبح يتنقل هائماً على وجهه، من يتحمل هموم الحياة وقسوة التفاصيل في الحياة اليومية، من مر عليه كل هذا وأكثر، و مازال يؤمن بوجود حل ما ينقذ ما تبقى له، من غادر هذه الحياة ارتاح، ولكن هؤلاء الذين مازالوا يعيشون ويحلمون ويتحملون ويأملون بغد أفضل.. شهداء أحياء.
لم ينتظر صديقي طويلاً.. أطفأ التلفاز بسرعة.. وعاد إلى مسح قطع الرصاص بعصبية.. إنها رصاصات التمرد على الموت.. «لهذا يفضل صديقي هذه الهواية عن غيرها!!».