عذراً يا جدي

عذراً يا جدي

عندما كنت في الخامسة من عمري، في غرفة جدي الصغيرة، تلك الغرفة التي كانت مختلفة تماماً عن باقي الغرف في بيتنا آنذاك، الجدران العفنة، الرطبة، تحمل صور لأناس مخيفين، خالية من الأثاث لا يوجد سوى الكتب، سألت أمي وقتها: ألن يحزن جدي في قبره حين يرانا نحرق كتبه ولماذا نحرق تلك الكتب؟

نظرت أمي إليّ بعيون شاردة، وكأن ليس لديها جواب مقنع عن سؤالي البريء وقالت بحزم: إن أتى رجال المخابرات ووجدوا هذه الكتب سيحرقون البيت بأكمله وسيضعون أباك في السجن، لن يحزن جدك، فهو لا يريد لأبيك أن يقضي ما بقي من عمره في السجن، فجدك يعرف جيداً ما معنى كلمة سجين سياسي لأنه سجن كثيراً على يد رجال «المكتب الثاني».
أخذت أتصفح كتاب سميك، علّي أجد شيئاً يقنعني أن تلك الكتب تستحق الحرق لكنني لم أفهم كلمة واحدة.
أخذت أمي الكتاب من يدي وقالت بلؤم: «توفي جدك في العام ذاته الذي ولدت فيه، وكأنه لم يريد أن يموت قبل أن يعطي الراية لحفيده!! هيا ساعدني في حمل تلك الكتب إلى السطح لنكمل حرقها». لم أفهم مما قالته شيئاً سوى أننا سنستمتع بإشعال النار، كان حبي للعب وخاصة بالنار قد أنساني تلك التساؤلات وأنساني صور الرجال المخيفين على الجدران.
لم نحرق الكتب فقط، بل كان هناك مقالات وخواطر أيضاً، ومن بين تلك الأوراق المصفرة وجدت ورقة أخذتها وخبأتها، فهي صغيرة ويبدو أن كلماتها مفهومة.. سأقرؤها، بعيداً عن عيني أمي، حين أستطيع.
 لكن خوفي مما قالته أمي جعلني أنسى إخراج تلك الورقة لاحقاً، مضت اثنتا عشرة سنة وما زالت الورقة تختبئ في المدخنة، وأصبحت في السابعة عشرة من عمري، وأصبحت أعي تماماً ما معنى سجين سياسي ومخابرات ومكتب ثاني، وخاصة أن البلاد تمر بأزمة، والناس اليوم تستنشق السياسة مع الهواء.
صرت أفكر، حُبس جدي منذ سنين، هل كان «النظام» غير راض عنه؟! وهل يعقل أن جدي كان معارضاً، ولكن أنا لم أسمع بكلمة «معارضة» إلا منذ سنة تقريباً! وجدي توفي عام 1995.. غريب، إن لم يكن معارضاً لماذا أحرقنا كتبه إذاً؟ ماذا كان في تلك الكتب؟  تذكرت لقد خبأت ورقة كان قد كتبها، سأخرجها وأقرأها: «تحية رفاقية وبعد، أنا لا أعلم من سيقرأ هذه الورقة لكن، في هذه الغرفة كنز حافظوا عليه».
شعرت بحرقة قوية في صدري، نظرت إلى صورة جدي المعلقة على الحائط لكني لم أقو على إطالة النظر «كم كنت أحمق يا جدي، لم أقرأ وصيتك إلا بعد أن أضعت الكنز وحرقت الكتب». جلست في غرفتي وحيداً طوال الليل أقلب الورقة الصغيرة في يدي، لم أعد قادراً على كتمان هذا السر الذي يخنقني، فاقتربت مختنقاً من أمي بعد طلوع الصباح، ناولتها الورقة «هذه من جدي!»، قرأت الرسالة ثم مسحت دمعتها، وابتسمت وقالت: «جدك كان عنيداً بحق..» ثم نهضت بسرعة وجلبت كتاباً سميكاً بدا مألوفاً للغاية، أعادني غلافه الأسود المنمق عدة سنين إلى الوراء، إنه من مكتبة جدي! نظرت إلى أمي مذهولاً وهي تناولني الكتاب الذي لم تقو على حرقه وقتها، «إنه الأول في مكتبك الخاصة.. عليك أن تكمل قراءته متى استطعت.. لكن إياك... إياك أن تخبر أباك...».