السردين

يعود عشقي لسمك السردين إلى سنين طويلة خلت. وبالرغم من انحداري من بيئة بحرية أعيش على شواطئها منذ ما يزيد على النصف قرن، إلا أنني لم أشبع السردين طيلة هذه المدة لأسبابٍ عديدة؛

أولها الفقر المدقع الذي عشته، ويبدو أنني سأغادر إلى دار البقاء وأنا مسربلٌ بتلك الصفة. وثانيها أنني جرّبت مراراً صيد السمك ولم أفلح إلا لماماً، بسبب افتقار الشاطئ السوري للثروة السمكية نتيجة الصيد الجائر من جهة. وبسبب سرعة نفاد صبري من الانتظار لدى استجداء السمكة التعلق بصنّارتي من جهة أخرى. ولذلك فقد أصبح هاجسي الدائم هو كيفية تلبية رغبتي من ذلك الطعام الفردوسي. وإن نسيت فلن أنسى عندما كنت طالباً في المرحلة الابتدائية، وسألت معلم الصف بينما كان يشرح جمالية الحياة في الملكوت الأعلى: «أستاذ هل يوجد سمك في الجنّة؟» وكيف أثار سؤالي البريء ذاك عاصفة من الضحك بين الطلاب.. 
وكبرت، وكبر معي تعلّقي بالسمك، لدرجة إذا أراد أحدهم دعوتي إلى وليمة غداء أو عشاء، فلا أُسأل عن الطبق الذي أفضّله، فقد بات شغفي بالسمك معروفاً للجميع.
حتى أن أحد الفاسدين أراد شراء ذمّتي حينما كنت رئيساً للدائرة القانونية لدى الشركة التي أعمل بها، حيث سأل معارفي عن نقطة ضعفي ليستثمرها لمصلحته فأجابوه: «السمك» ولا شيء غير السمك.. ولولا لطف الله لسقطت صريعاً أمام هذا الإغراء الساحر.
وأذكر أنه خلال اعتقالي بسبب انتمائي المزعوم إلى «رابطة العمل الشيوعي» بالرغم من أنني كنت آنذاك في صفوف الحزب الشيوعي السوري. وعشية نقلي من أحد المعتقلات إلى معتقل آخر في العاصمة، فتح السجان كوّة الزنزانة مساءً وناولني صحناً فيه ثلاث سمكات بعد أن أفرغ فيه محتويات علبة سردين. ويا للمفاجأة السارة! سمك وأنا في السجن؟! لم أصدّق للوهلة الأولى؛ شممته، مرة واثنتين وثلاث.. عددتها: إنها ثلاث سمكات مقطوعة الرأس. قلت في نفسي سوف أحتفل بهذه السمكات على ثلاث وجبات. التهمت السمكة الأولى بتلذّذٍ نادر. وأبقيت السمكتين الأخريين إلى اليوم التالي. ولكن عند الفجر طُلب مني على حين غرّة تجهيز نفسي لمغادرة الزنزانة وترحيلي إلى العاصمة فوراً. وكأن ثمة تواطؤ بحقي إمعاناً في قهري وتعذيبي من خلال حرماني تناول أطيب ما أنتجته الطبيعة. غادرت الزنزانة مكسور الخاطر وعيني على السمكتين. 
ومؤخراً أصدرت الحكومة قراراً بمنح كل أسرة سلّة غذائية تضم المواد الغذائية الأساسية، قد يطبّق في القادم من الأيام.. ولكن للأسف لم يكن من بينها حتى علبة سردين واحدة.
وقبل ارتفاع الدولار، كنت في مطلع كل شهر أشتري أربع علب سردين، أحتفل مساء كل يوم خميس بواحدة منها، بطقوس صائمٍ بعد دهرٍ من الجوع.
وبعد ارتفاع أسعار السردين، أصبحت أشتري علبة واحدة كل شهرين، أُبقيها على الرفّ بمكانٍ بارزٍ وعلى مرمى نظري اليوميّ، إلى ما قبل قبض الراتب بيوم واحد، لأحتفل بالتهامها مع كأس من العرق، نكايةً بظروفي المتقشفة التي أُجبرنا عليها.
وعند التعديل الحكومي الأخير، كنت أتمنى تسمية وزير يحمل حقيبة وزارة الثروة السمكية والحيوانات والطيور.. فقد يجود علينا ببعض السردين.. ولكن هيهات.
لذلك، وقسماً عظماً، إذا قُيّضَ لي حضور مؤتمر «جنيف2» سوف يكون أحد أهم طلباتي أن تضم الحكومة الانتقالية وزيراً للسردين. وما حدا بمطالبه أحسن من حدا..