جبل الجليد
أستيقظ كل يومٍ وأنا أشعر بأنني بتّ أقل إنسانية، وبالرغم من أنني لا أعلم حقاً كيف يقاس «مقدار الإنسانية» في الذات البشرية إلا أنني أدرك أن جزءاً من روحي يتفتت يوماً بعد يوم. أتساءل أين ذهبت كل تلك الحساسية التي تجعلني أغمض عينيّ أمام مشهد مخيفٍ في فيلم الرعب
وحينما كانت كلمات أغنيةٍ حزينة كفيلة بتركي ساهمةً عدة أيام، وعندما كنت أستطيع بسهولة تقمص مشاعر الآخرين والتخمين بأن صديقاً يشعر بالضيق أو الحزن بمجرد مراقبة ملامح الوجه؟
كيف أستطيع اليوم إكمال كنس غرفة جلوسي من الغبار، في الوقت الذي أعلم فيه بأن أحياء وبيوتاً تدمّر على بعد عدة كيلومترات فقط؟! كيف أستطيع تبرير تحديقي في جانب الطريق بحثاً عن جثةٍ منسيةٍ هناك، كي أكمل جدول مشاهداتي لملامح الحرب، وأضع إشارة (صح) إلى جانب خانة «مشاهدة جثة» بعدما ملأت خانات «سماع دوي القصف» و«النجاة من عبوة ناسفة». كما لو أن البشر يولدون هكذا؛ إما أحياءً بخدودٍ متوردة وأجساد دافئة، أو جثثاً باردةً شاحبة توزّع كقطعة ديكور على ناصية الطريق كي تساعد عابرةً مثلي في إكمال أرشيفها من مغامرات الحرب!
أنظر إلى صورة طفلٍ يشرف على الموت جوعاً في مخيم اليرموك، يجلس كهيكلٍ عظميٍ صغير على كرسيٍ بلاستيكي، وتعيد إلى الذهن آلاف الصور لأطفال الصومال ببطونهم المنتفخة؟ لماذا يبدو المخيّم بعيداً بُعد تلك الصحراء بحيث يمكن تناسيه؟ ولماذا يحاول ذهني الالتفاف على الواقع وتكذيب الصورة «المزورّة» «الملفقة» الأكثر قسوة من أن تكون حقيقية؟ ولماذا بعد ذلك أستطيع إكمال وجبات طعامي متناسية العيون الجاحظة؟ وكيف وصلت إلى هنا؟ أنا التي لم أتخيل يوماً بأنني سأصبح جبلاً جليدياً متحركاً؟!
متلمسةً أطراف أصابعي، أتأكد بأنني بت أفقد حاسة اللمس، لا أرى سوى أطيافٍ تتحرك سريعاً دون أن أستطيع تحديد الملامح، لا شيء يستثيريني أو يحفزني أو يستطيع دفعي إلي البكاء، أحاول جاهدة الصراخ بصوتٍ يخرج مكتوماً «أنا مخدّرة، أشعر بالخواء» فيأتي الرد على شكل ابتسامات شاحبة أو رؤوس تومئ لي مثنية على «موضوعيتي» و«اعترافاتي» دون أن تدرك أنني أبعث لها بنداء استغاثة.
أحتاج شيئاً يخدش الجبل الجليدي ويترك أثلاماً وخطوطاً محفورة على السطح الأملس، أتوق لسخونةٍ تستطيع إذابة الهيكل الشفاف، وإخراجي من داخله بردانةً متألمة ولكن على قيد الحياة.