صرخة «إنسانيّة» أم مطلب سياسي...!!
«بكفي قتل... اشبعنا دمار..» عبارات ٌ كثر تردادها بين السوريين بمختلف أطيافهم منذ اندلاع دوامة العنف في الأزمة السورية, دعوات ٌ تبلغ ذروتها اليوم خاصّة بعد ما ذاقه السوريون من ويلات الاقتتال الوهمي الشرس
وبذلك تصبح مقولة «وقف العنف» أولويّة تعكس ضرورة ملحّة لدى مختلف أطياف المجتمع السوري, ضرورة لا تدع مجالا ً للشك بمصداقيّة أو رغبة تلك الدعوات «السوريّة» سياسية كانت أم مدنية وأهلية, افتراضية أم واقعية لوقف الاقتتال بين السوريين...
في الوقت ذاته، تخرج تلك العبارات من كونها مطلباً سورياً حقاً لترتدي حلّة «النجومية العالمية».. وتتصدر برامج العالم السياسية منها والاقتصادية، وحتى تلك البرامج الاجتماعية، فتختلط الدعوات لتختلط معها نوايا الداعين خاصّة وإن تصدرت إحدى تلك العبارات تصريحاً لأكثر المساهمين في دوامة سفك الدم السوري «البيت الأبيض نموذجاً» الأمر الذي يخلق لدينا اليوم أولوية أخرى هامة هي حماية هذه «الأولوية» من شر التعميم والتجريد الذي قد يصل بنا إلى حد التمييع أو الهرطقة الإعلامية والترديد الببغائي..
أزمة الشعارات..
على امتداد الأزمة السورية، انطلقت الكثير من الدعوات والحملات التي تنشد «وقف العنف»، وحظيت بمتابعة هامة في مواقع التواصل الاجتماعي بشكل أساسي. وبقدر ما تجسد هذه الدعوات ضرورة ملحّة، إلا أن بعض القائمين على تلك الدعوات حاول إيهامنا بدرجة من الدرجات بأن «وقف العنف» ضرورة «إنسانية» وحسب، ومطلباً هاماً يجب أن نجرده من أي مضمون سياسي أو اقتصادي اجتماعي،ص وأن نتعامل معه بمنأى عن «كل شيء»، تجريد من شأنه أن يبعدنا عن فهم الأسباب الحقيقية لما شهدته وتشهده بلادنا من عنف، يفتك ببشرها وحجرها، ويعيق علينا بالتالي إيجاد حل جذري يضمن الخروج السليم من هذه الدوامة .
«العنف» المجرّد:
بالأمس البعيد والقريب.. حاول الكثيرون من طرفي الاقتتال الوهمي «نظام-معارضة» إيهامنا بأن «دوامة العنف» قادمة لا محال ولا قدرة على تلافيها.
بينما بدأ الإعلام الرسمي الحديث عن تدفق أعداد خياليّة من المسلحين «آنذاك» وعن «أنفاق» قد تصل القطب الشمالي بالجنوبي...!!
أما الطرف الآخر فبدأ يحصي «متنبئاً» أعداد «قنّاصات النظام» وبالتالي أعداد الشهداء التي ستسقط نتيجة ذاك القنص «الغادر» قبل أن تخرج المظاهرة بأيام أي قبل أن يحضّر «المغدور» نفسه لعملية «الغدر» بأيام...!!
ولا تبتعد الكثير من الذرائع الإعلامية «المفضوحة» التي هدفت إلى تبرير «العنف» قبل وقوعه في حقيقة الأمر عن كونها «هرطقة» يراد منها إبعادنا عن الأسباب الحقيقية للأزمة أولاً وإخضاعنا لثنائية «إلى الأبد – إسقاط النظام» شئنا أم أبينا ذلك، وبمجرد ابتعادنا عن أسباب الأزمة الجذرية، يصبح من السهل على أحدهما أن يقنعنا بأن شعاره شيء، والعنف شيء آخر، كأن يقنعنا أحد المعارضين بأنه يريد فقط «إسقاط النظام»..! ولكن دون عنف ودون أدنى ارتباط مع من يتوافقون معه بطرحه السياسي من «متآمري» الخارج أو الداخل على حد سواء. وخلاصة القول كان للعنف حوامله الرئيسية، والتي تجلت آنذاك بالشعارات المتطرفة، شعارات لها مدلولاتها السياسية الاقتصادية الاجتماعية، وهي واضحة للعيان بقدر لا يسمح لأحد الطرفين، مهما حاول عابثاً اليوم أن ينسينا بأن شعاره «المستحيل» سيؤدي بنا إلى ما نعاني منه اليوم.
ثنائيات جديدة..
تشكّل اليوم بعض دعوات الخروج من العنف أو دعوات إيقافه امتداداً طبيعياً للثنائية التي بدأت بها هذه الظاهرة، عبارات ٌ من شأنها اختزال شعار «وقف العنف» وكأنه مجرّد دعاية مدنيّة أو أهليّة أو عائليّة حتى..«شيلنا من السياسة، بدنا نخلص من القتل..!! لا تقلي اقتصاد وبرنامج ومعالجة، بدنا نحب بعض وخلص.. هلأ شيلني من الحكي الفاضي تبع الفقر والتهميش والفساد، في دم عالأرض» من حيث أن «العنف» له حوامله السياسية والاقتصادية الاجتماعية، بالمقابل يصبح لـ«وقف العنف» أيضاً حوامله وبرامجه البديلة التي من شأنها أن تعالج كل أسبابه لتمنع حدوثه مجدداً بشكلٍ أو بآخر، و يستوجب «حمّام الدم» معرفة كل الخطوات اللازمة لإيقافه، وهو وإن لم يتسلّح ببرامجه الاقتصادية السياسية – القريبة والبعيدة المدى – حتما ً سيبقى صريع المجتمعات الافتراضية ومقترحاتها أو حبيس النوايا الحسنة، والمطلب السياسي هو مطلب إنساني ناضج يدرك خطواته المتماسكة والواقعية للوصول إلى مبتغاه، كذلك مبدأ «وقف العنف» هو طرحٌ إنساني لا يحتاج إلى إشعال الشموع أو ذرف الدموع، فالدموع لا تنهي الاقتتال حتى لو كان المتقاتلون «أخوة»...
المطلب السياسي هو مطلب إنساني بالضرورة، ولمن يريد نسف هذه الحقيقة بترداد جملة أن «السياسة لعبة الكبار»، عليه أن ينصت جيّدا ً لصرخة ذاك السياسي المخضرم حينما قال: «هذه الإنسانية قالت كفى..».