«الفريق البرازيلي».. والمجازر في سورية!
ضربة جزاء
خرجت عيناي من محجريهما والتصقتا بشاشة التلفاز، إنها ضربات الجزاء التي ستحدد من الرابح، بالرغم من كونها طريقة «غير عادلة» عند الكثيرين، إلا أن ذلك لا يهم، المهم أن يفوز «فريقي»، فريق البرازيل، لأن فريق فرنسا فريق «شرير»، لماذا هو كذلك؟
لمجرد أن الحظ وضعه عثرة في وجه «فريقي» للفوز بكأس العالم.
كنت حينها في السابعة من عمري، بعد انتهاء المباراة، دخلت غرفتي، ارتميت على السرير باكياً، لقد فعلها الفرنسيون الأشرار، الاستعمار اللعين الذي احتل بلادنا، وأنجب «بيكو» اللعين الشهير بالاتفاقية الملعونة «سايكس – بيكو». تذكرت يومها طبعاً شرور العالم كلها، وأحداثه المأساوية، وحاولت إلصاقها بالفرنسيين وفريقهم، فهم مصدر كل الشرور، وأهمها حرمان البرازيل من الوصول إلى كأس العالم..!!
ولكنها تدور..!!
في خضم مأساتي الذاتية، كانت الكرة الأرضية تتابع دورانها بشكل طبيعي، غير آبهة بأحزاني ودموعي الحارة المتفجرة، كما تابعت دورانها أثناء توقيع اتفاقية «سايكس- بيكو»..!! وهي تتابع دورانها اليوم، رغم كل الضحايا الأبرياء الذي يسقطون اليوم، والذين سيسقطون في المستقبل، في سوريتي، وفي أماكن أخرى من العالم، تماماً كما فعلت حين سقط ملايين الأبرياء وغير الأبرياء على مر عصور التاريخ البشري «المشرف» المليء بالانتصارات والمجازر.
درس فلسفي..!!
تعلمت الكثير في السنين التي تلت ذلك الحدث، قد يكون أهمها الحد الفاصل بين الذاتي والموضوعي، قد يبدو الأمر وكأنه مجرد «فزلكة» فلسفية لا معنى لها للبعض، ولكنها كانت حداً فاصلاً في حياتي، وقد حفظت بيتاً من الشعر، رغم عجزي الأسطوري عن الحفظ الحرفي، يقول: «عين الرضا عن كل عيب كليلةٌ وعين السخط تبدي المساويا». يمثل الذاتي، ما هو داخل كل فرد منا، فهو ملكيتنا الخاصة، هو ما نكونه من مشاعر وآراء وتحيزات، تناسبنا وتناسب مزاجنا. بينما لا يعترف الموضوعي بنا وبمشاعرنا الخاصة، ولا بتقييمنا للأمور، لا يفهم للخير والشر معنىً، لا يعرف الفرق بين المهم والتافه من الأمور، لأنه مرتبط بالقوانين التي بني الكون على أساسها، مرتبط بالعلم لا بالآراء.
سدّد.. كـووووول!!
لم أعد أكترث لكرة القدم ولغيرها من الألعاب منذ زمن، لم تعد تمتعني متابعة مجموعتين من الأشخاص يتصارعون على كرة من الجلد والهواء، لكني ما زلت أستمتع بمشاهدة اللاعبين ومهاراتهم في المناورة وتسجيل الأهداف، وما الضير في ذلك، طالما أن الشيء الوحيد الذي يجري ركله هنا، هو كرة من الجلد المنفوخ، بينما تكمن المشكلة الحقيقية والمرعبة، في المباريات التي تستعمل بدل الكرات، أجساد الأطفال والشيوخ، أجساد الرجال والنساء، قوت الشعب ومصادر رزقه. تكمن الجريمة في رسم خطوط تقسيم سوداء على أرض دولة، بدلاً من الخطوط البيضاء على عشب الملعب، ومع كل ركلة بتشجيع من الجماهير العريضة، يقتل طفل أو يحرق معمل، عندها تتحول المجزرة إلى هدف في مرمى الفريق الآخر.
أبطال «الكولوسيوم»
«الكولوسيوم»، ذلك المبنى الرائع المكرس لمشاهدة مباريات الدم في العصر الروماني، أحد أهم ملاعب ذلك العصر. كنت أستغرب حضورالناس إلى تلك المدرجات، ليتعالى الصياح والتهليل، فقط لأن «بطلهم» قتل مصارع الفريق الآخر، بطريقة فنية رائعة..! يمجدون اسم الامبراطور الذي نظم لتسليتهم حدث اليوم: مجموعة من الحيوانات المفترسة المجلوبة خصيصاً من أفريقيا، والتي بدأت عملية تجويعها لحظة تم أسرها، لتلتهم مجموعة كاملة من الرجال والنساء «الهراطقة»، أعداء الجمهورية، أو الامبراطورية.
كنت أستهجن «حيونة» الإنسان تلك، وأحمد الله ألف مرة كل يوم، على أني لم أولد في تلك العصور، ولم أعرف تلك الوحشية إلا من كتب التاريخ والأفلام، إلى أن أدركت منذ فترة قريبة، لا تتجاوز بضعة أعوام قليلة، الحقيقة المرعبة.. لم يتم إغلاق «الكولوسيوم» يوماً، بل خرج إلى الشوارع.
لعبة الموت
من يعيش اليوم في سورية، أو من يتابع الوضع فيها، سيدرك سريعاً أن مجازر اليوم تنسينا ضحايا الأمس، لا يهم، المهم من يفوز، ومشجعو كل طرف يستقتلون في الدفاع عن فريقهم، «الخالي من العيوب والأخطاء»، كما يستقتلون في مهاجمة الفريق الآخر الشرير، «العميل التكفيري» أو «الديكتاتور». بينما حقيقة الأمر أن لا أحد يكترث بالأطفال، لا أحد يهتم بمن مات، لقد استشهدوا وصعدوا إلى الجنة، وهم الآن في مكان أفضل، وفي بعض الأحيان نحسدهم على النعمة التي هم فيها، ونتمنى لو تم ركلنا بدلاً منهم، في هذه اللعبة «المجيدة العظيمة المقدسة»..!
«الرومان» مجدداً..
لن تنقرض كرة القدم يوماً، إلا حين يتناهى عدد متابعيها ومشجعي الفرق إلى الصفر، قد يكون هذا جواباً لمن يتساءل: متى يرحمنا الله بانتهاء هذه المصائب في سورية؟ فليسمها البعض «ثورة» أو «فورة»، لا فرق، اختلاف أسماء الفريقين تفصيل تافه، أمام حقيقة الموت المرعبة، وتحول التصفيق إلى «لايكات»، وتحول الصراخ والتهليل إلى «كومنتات»، واستمتاع المتشددين من الطرفين بكل هدف يسجي المزيد من الأجساد إلى المدافن العشوائية، واتهامات كل فريق للآخر بارتكاب المجازر، لأنه الشرير، هو الطرف الوحيد الذي يقتل ويرتكب المهولات.
«هدف لسورية...»!
في سورية اليوم، وحدهم السوريون يدفعون الضريبة، يوماً بعد آخر، ومجزرة بعد أخرى، ضريبة قاسية ومؤلمة، مكونها الأساسي دماؤهم وأجسادهم في مفارقة عجيبة تكمن في أن هذه الضريبة يفترض بها توحيدهم، فالدماء التي تسيل على الأرض السورية، دماء سورية، كما وحدت المتشددين من الطرفين في أهداف اقتسام الغنائم..!! وحدهم السوريون من وعى وسيعي أكثر حقيقة الصراع، وربما عندها لن يرضوا بموقع الكرة التي يتقاذفها الطرفان وسيدفعهم لأخذ زمام المبادرة في الملعب وتسجيل الأهداف، لمصلحة وطنهم فقط.