مشهد العنف العبثي
يُهيأ للبعض منّا أحياناً أن جميع اللصوص والقَتَلة المأجورين والمرضى العقليين والمُغتصبين والمحاربين الأشداء انفلتوا من عقالهم وانسلّوا هاربين من أفلام الرعب أو أشد الكوابيس إخافةً، وبدؤوا بالتجوّل بيننا طُلقاء. حينها يسيطر شعورٌ قَلِقٌ بغياب الأمن، وتصبح أيُة نظرة من غريبٍ عابر في الشارع إشارةً إلى اقتراب الخطر.
هل سألت نفسك يوماً كم عدُد القَتَلة الذين التقيت بهم حتى الآن؟؟ أو كم عدد اللصوص الذين صادفتهم وهم يؤدون عملهم؟؟ البعض سيجيب بأنه لم يلتق أحداً منهم، وسيروي آخرون حكايات عن جثةّ مرمية على جانب الطريق وأثاث مسروقٍ للبيع تحت جسر الثورة، وسيكون لدى الكثيرين بالتأكيد قصصٌ مؤلمةٌ لا تُحتمل..
أين كان كلُّ هذا الكم من العنف مُختبئاً طوال تلك السنوات؟ أين ذهب المعلّمون والموظفون الحكوميون والفلاحون وما تبقّى من الأشخاص «العاديين» ؟ ماذا الذي أخفته الملابس والقُبعات والبدلات المدرسية وحقائب الأوراق!
بالرغم من أن «طغيان العنف» كان العنوان العريض والأبرز لحياتنا خلال العامين المنصرمين، يثبت واقع الحال أن التجارب والخبرات الشخصية معه اختلفت وتباينت تبعاً للأفراد والمدن وحتى الأحياء! بحيث وقعت شريحة واسعة من السوريين ضحية عنفٍ مباشر أو كانت شاهدةً على أعمال عنفٍ، إلا أن أطيافاً واسعة من المجتمع إضافةً إلى «المراقبين الخارجيين» لم يختبروا تجارب مماثلة وهنا كان لوسائل الإعلام (المصوّرة تحديداً) دوراً هاماً في تضخيم صورة العنف كما تبدو الآن، أو على الأقل تثبيتها كحالة مستمرة دائمة. ذلك وببساطة لأن مشاهد العنف الاستثنائية وأخبار الفاسدين وتجار الأزمات والقتلة أكثر إثارةً للجلبة، إذا ما استعدنا المقولة الصحفية : «ليس الخبر الصحفي أن يعضّ الكلب رجلاً، وإنما أن يعض الرجل كلباً!».
ولأن حوادث «العض» كثرت، غاب الأبطال الاستثنائيون الذين رفضوا الانجرار إلى العنف وكل أولئك «العاديين» الذين مازالوا يحاربون كل يومٍ لعيش حياة طبيعية.
بعيداً عن شاشات التلفاز، كان للحكايات والقصص التي يتناقلها الناس دورٌ في تثبيت مشهد العنف ذاك، فالجيران والأقرباء وزملاء العمل والأصدقاء قلقون خائفون يتبادلون الشكوى، يتعاطفون مع مآسي الآخرين، ويتقمصون الأدوار.
يحتاج السوريون اليوم أكثر من أي وقت مضى استعادة ثقتهم ببعضهم البعض، وتصديق ملامح كل تلك الوجوه الطيبة المُطمئنة التي يصادفونها في الشارع والحافلة والعمل، والإيمان بأن العنف هو مجرد فصلٍ أسود ضمن تاريخٍ طويل سابق وسيأتي ..