مثقف أم سياسي أم الاثنان معاً؟
اتخذت العلاقة بين المثقفين عموماً والسياسة وأهلها، صورة علاقة شائكة وغير ودية في معظم الأحيان، ويستطيع المراقب الحذر ملاحظة اتساع الشقاق والقطيعة خلال مرحلة التراجع التي استمرت طويلاً في النصف الثاني من القرن الماضي، وانتهى الأمر في كثير من الحالات إلى تكريس صورة محددة لـ«المثقف» الصرف يمارس من خلالها التعالي والترفع عن العمل السياسي ويبني من خلال مواقفه، وإنتاجه سلسلة من التصورات والمفاهيم عن ضرورة «فصل هذين العنصرين اللدودين..!!»
وجعل النشاط الثقافي المجرد مقدماً وذا أولوية. واعتبار النشاط السياسي في أفضل أحواله عملاً غير مجد في سبيل الوصول إلى الأهداف التي يصبو إليها هذا «المثقف» أو ذاك، علاوة على محاولة ربط المشتغلين في السياسة بتلك الصورة غيرالجدية أو الصادقة وحتى غير محبوبة أومقبولة اجتماعياً .
عانى مجتمعنا طويلاً من أزمة سياسية عميقة كان من أبرز مظاهرها ابتعاد الجماهير عن الأحزاب السياسية إثر فشل هذه الأخيرة في تطبيق برامجها، بالإضافة إلى حدوث تناغم للجهود الخارجية والداخلية للحفاظ على هذا الفصل التعسفي غير الطبيعي بين الثقافي والسياسي، خاصة في مرحلة استطاعت خلالها قوى الليبرالية الجديدة الهيمنة على الوعي الاجتماعي باذلة جهوداً وأموالاً طائلة لتكريس ثقافتها الخاصة من جهة، وإبعاد الناس عن وعي حاجاتها الحقيقية من جهة أخرى.
ولكن هل سيبقى هذا التناقض الوهمي بين السياسي والمثقف قائماً أم أن رياح التغيير نحو الحياة الجديدة التي ستنقل الواقع كله بما فيه المثقفون إلى موقعهم الصحيح في التغيير الحقيقي العميق.
يجيبنا غرامشي على هذا التساؤل:
إن تصور «المثقفين» كفئة اجتماعية متميزة ومستقلة عن الطبقة ليس إلا خرافة، فكل الناس يمكنهم أن يكونوا مثقفين، بمعنى أن لديهم ذكاء، وأنهم يستخدمونه. ولكنهم ليسوا جميعاً مثقفين من حيث الوظيفة الاجتماعية...
وينقسم المثقفون من الناحية الوظيفية إلى جماعتين: فهناك أولاً المثقفون المحترفون «التقليديون».. ثانياً: المثقفون «العضويون» ذلك العنصر المفكر والمنظم في طبقة اجتماعية أساسية معينة. ولا يتميز هؤلاء المثقفون العضويون بمهنهم، التي قد تكون أية وظيفة تتميز بها الطبقة التي ينتمون إليها، بقدر ما يتميزون بوظيفتهم في توجيه أفكار وتطلعات الطبقة التي ينتمون إليها عضوياً.