بيروت «ع دروب» مشغرة... وطفلها الذي لم يكبر
مع «عصبة الخمسة» التي ضمّت الأخوان الرحباني، توفيق الباشا، عبد الغني شعبان، وفيلمون وهبي، أسهموا في ما سمِّي «عصر النهضة» في الموسيقى اللبنانية. بدءاً من الغد، تفتتح ريما خشيش مهرجان «الجامعة الأميركية في بيروت» السنوي المهدى إلى الفنان الكبير في ذكرى رحيله العاشرة.
في الذكرى العاشرة لـ«برنامج زكي ناصيف الموسيقي»، ينظم البرنامج التابع لـ«الجامعة الأميركية في بيروت» ابتداءً من الغد الأحد مهرجانه السنوي الأول «سوا ... ع دروب المحبوب» الذي سيستمر حتى ايار (مايو) 2014 (راجع المقال أدناه). هكذا، يستعيد البرنامج المؤلف اللبناني الذي ولد في 4 تموز (يوليو) 1916 في بلدة مشغرة التي جادت على موسيقاه من شاغورها، لتفيض ألحاناً تنضح بهوية ثابتة وتستقي من تراكمات ألوان سهل البقاع ما لا تقوى على محوه تيارات السوق الآنية.
إلى جانب بيئته القروية، عرف ناصيف بعشقه لصوت والدته التي سلّمته قلادة التراث الفولكلوري اللبناني كالدلعونا والعتابا والميجانا والروزانا ونماذج الدبكة الإيقاعية. حين بلغ الثامنة، انتقل مع أهله إلى بيروت وغاص لاحقاً في التأليف والعزف على العود، وظلّ هاوياً إلى أن التحق عام 1931 بالجامعة الأميركية للتعمّق في الموسيقى من المنظور الأكاديمي. بدأ بدراسة العزف على البيانو والفيولونسيل، وأُسس الغناء، وتعلّم النظريات الغربية تحت إشراف المؤلف والبروفسور الفرنسي برتران روبيّار الذي تتلمذ على يده توفيق الباشا لاحقاً. ساهمت دراسة ناصيف للموسيقى الغربية في بلورة هويته الخاصة، هو الملمّ بالتقاليد المشرقية من بابيها الإسلامي والكنسي. كان عاشقاً لأداء سلامة حجازي ويوسف المنيلاوي، وتلميذاً لمتري المر في التراتيل البيزنطية. رأى في هذا الباب الثالث فرصةً لتعديل الفنون الشعبية، وتأطيرها في لحنٍ وكلمات ثابتة لتكون «صالحة» لمواكبة ما سمِّي «عصر النهضة» في الموسيقى اللبنانية. كان في طليعة محدثي تلك الحقبة الأخوان الرحباني، توفيق الباشا، عبد الغني شعبان، وفيلمون وهبي الذين شكّلوا مع ناصيف «عصبة الخمسة» تشبّهاً بالمؤلفين الروس الخمسة The Mighty Handful (ميلي بالاكيريف، سيزار كوي، ريمسكي كورساكوف، ألكسندر بورودين وموديست موسورغسكي). وبينما انطلقت «حفنة الجبابرة» من موسيقى روسية ذات هوية مستقلة عن المدرسة الأوروبية، عملت «عصبة الخمسة» على الاستقلال عن المدرسة المصرية وإرساء موسيقى لبنانية نابعة من الفنون الريفية الجبلية والبدوية التي تمتد إلى سوريا الكبرى. هكذا، ولدت نزعة تأليف الموسيقى اللبنانية بمقاربة غربية، أي ضمن قوانين التنظير الغربي. أدت هذه النزعة إلى تغييب المقام الشرقي عن معظم الأعمال، لتتلاءم وقوانين الهارموني البسيطة، باستثناء أعمال فيلمون وهبي التي لم تتضمّن أي مقام غربي. أما «شيخ الفولكلور»، فاختار البدء من الداخل، ليحمي التراث في قوالب صلبة تستطيع مواجهة العولمة الثقافية التي تشكل خطراً على هذا النوع من الفنون الشعبية. أخذ الموروث البدوي والريفي ليعيد حياكته بدقة بالغة، وزخرفة مكثفة، لا يملك بعدها المؤدي أن يضيف شيئاً من التزيين.
بدأ ملهم الدبكات مشواره موسيقياً محترفاً في العقد الرابع وعمل مع «عصبة الخمسة» في الإذاعة اللبنانية و«إذاعة الشرق». كانت سعاد الهاشم أول من غنى له واشتهرت بأغنية «حبايبنا حوالينا». في 1957، شارك في «مهرجانات بعلبك»، متعاوناً مع صبري الشريف، فألّف أغنيات الدبكات ووضع ألحاناً على بعض ما ورث من الزجل وأهازيج سهل البقاع المحكية. أما الكورال، فصار له وجه جديد مع زكي ناصيف الذي أعطاه دوراً أساسياً ولحن له «طلوا حبابنا» و«يا لا لا لا عيني يا لا لا لا» اللتين غناهما وديع الصافي لاحقاً. وفي 1960، انضم مع توفيق الباشا إلى فرقة «الأنوار» التي أسسها سعيد فريحة وحقّقت نجاحات عديدة. بعد هذه التجربة التي استمرت خمس سنوات، عمل ملحناً مستقلاً، فأعطى أجمل الألحان لكل من: صباح، وديع الصافي، نصري شمس الدين، سميرة توفيق وجوزف عازار ... كما شارك في عروض لفرق مثل «كركلا»، «فهد العبدالله» ولاحقاً عمل في مسرحية «يوسف بك كرم» و«المير بشير»، ولحّن جنريك بعض المسلسلات مثل «بربر آغا»، وظهر أيضاً في برنامج «استوديو الفن» عضواً في لجنة التحكيم (1974، 1980، 1988 و1992).
سياسياً، انتمى ملحن «ما نسي العرزال» إلى «الحزب السوري القومي الاجتماعي» عام 1943 ولحن له ثلاثة أناشيد، منها نشيد الحزب الرسمي. لقد كان فكره العقائدي منعكساً بشفافية في أعماله. موسيقاه وكلمات أغانيه تنطبق على مدرسة أنطون سعادة الأدبية التي تحثّ على التحديث ونبذ البكاء على الأطلال والنظر إلى الموسيقى بوصفها لغة عالمية «ينفلت فيها المبدع من الزمان والمكان ليرسم مثلاً عليا بديعة لأمةٍ بأسرها». انفلت هذا المبدع في «راجع راجع يتعمّر»، فاعتُقد أنّ العمار الذي تكلم عنه هو عمار الحجر، بينما جاءت الأغنية لترسم رؤية جديدة بعد مخاض حربٍ أهلية. لكنّ هذا الفكر حذر أيضاً من مقاربة غربية لحضارة شرقية. هذا ما حاول ناصيف تفاديه في أغنيات عدة مثل «رمشة عينك»، «طلوا حبابنا»، «اشتقنا كتير»، «صبحنا بفجر جديد»، «من يوم تغربنا»، «عبالي يا قمر»، «بلدي حبيبي» ... نلتمس في أعماله طابع السهل الممتنع، فأداء أغانيه يتطلب تقنيات صوتية جيدة، لكن سلسة على أذن المستمع ولا توحي بأي استعراض أدائي أو تلحيني. بعدما غيّب الموت عاصي الرحباني، قدّم زكي ناصيف أجمل ألحانه في «فيروز تغني زكي ناصيف» عام 1995 الذي حوى تسع أغنيات من كلماته وألحانه، ما عدا «يا بني أمي». رحل الفنان المخضرم كالنسمة في 10 آذار (مارس) 2004 وظل في أعين كثيرين طفلاً بريئاً لا تفارق الابتسامة وجهه.
المصدر: الأخبار