الكون السينمائي عند وودي آلن
باستقراء سينما وودي آلن يمكن العثور بسهولة على النسق المتكرر أو المورفولوجيا الخاصة بها. الأمر يشبه لعبة الشطرنج، فعلى رغم تنوع الخطط، يظل عدد القطع ثابتاً وكذلك القواعد الحاكمة لتحريكها. فما هي قطع الشطرنج في أفلامه؟ وكيف تجلت في أحدث أعماله «العجلة العجيبة» Wonder Wheel والمقصود بها دولاب الملاهي الدائري، الذي يظل يدور بزبائنه من أعلى إلى أسفل؟.
أولى علامات النسق لديه هي «مركزية الذات»، فوودي حاضر في كل أفلامه، ثمة شذرات تزيد أو تنقص- من سيرته -، تتعلق بغرامياته، يهوديته، قلقه، طفولته، ثقافته وفلسفته التشاؤمية.
من المؤكد أن كل مبدع يلجأ إلى سيرته وتوظيف خبراته، لكنه غالباً يحرص على تمويه وإخفاء حضور الذات، لكن آلن يفعل العكس، فهو يصر على جعل فيلمه مرآة للذات. وهذا ما يُعرف بـ «سينما المؤلف»، هو ليس مجرد مخرج يقوم بتنفيذ سيناريو، بل مؤلف يوظف الكاميرا للتعبير عن ذاته، قبل أي شيء آخر.
لذلك في كل فيلم يكتب «كتابة وإخراج» معاً، فهو روائي بالصور، لا يُرينا «العالم» عبر الكاميرا، بل يرينا العالم عبر ذاته.
أزمة الأربعين
في مفتتح «آني هول» 1977 يتحدث الراوي عن أزمة الأربعين، نفس سن آلن آنذاك، كما يتحدث عن طفولته في بروكلين قرب الملاهي حيث كان والده يدير لعبة «عربات التصادم»، وكان الطفل يتخلص من عدوانيته عبر هذه اللعبة.
هنا في «العجلة العجيبة» تتحول الإشارة الهامشية إلى متن رئيس، فالأحداث كلها حول «مدينة الملاهي» حيث يعمل الأب هامبتي ويعيش مع زوجته «جيني» (كيت وينسلت)، صاحبة الأداء الأفضل في الفيلم، والتي بدورها تعاني أزمة ما بعد الأربعين، ولديها صبي يفرغ عدوانيته في إشعال الحرائق.
الأب والصبي مستعاران من سيرة آلن. مع أخذ الحذر بأن استعادة سيرته، لا تعني أنه يقدم حقائق، وإنما «تخييل ذاتي»، ينطلق من الذات، ثم يبدأ في التلاعب والإضافة والحذف. من هذا المنظور تصبح أفلامه التي تجاوزت الخمسين، بمثابة شريط ممتد على تنويعات سيرته. ولا ينفصل عن ذلك اختياره مهنة بطل أفلامه، فهو غالباً مخرج أو كاتب، أو ممثل، أو رجل مسرح، أو أستاذ جامعي... وجميعها أقنعة دالة مباشرة عليه.
نيويورك.. العالم
سينما وودي، هي كون نيويوركي بامتياز، إذ تتردد أصداء المدينة الكبيرة وشوارعها وأحيائها وأساطيرها ومعالمها، وتكفي نظرة على عناوين أفلامه: «رصاص في برودواي» حكايات نيويورك، و «جريمة في مانهاتن» الخ...
حتى عندما يذهب وودي آلن ليصور في لندن وباريس وبرشلونة، يصبح الأمر بمثابة نيويورك مقابل العالم، كنوع من نقد «الأمركة» وتفاهتها البورجوازية مقابل عراقة الثقافة الأوروبية، التي نراها في ثنايا فيلم مثل «منتصف الليل في باريس»، أو «نقطة المباراة» الذي دارت أحداثه في لندن، وكان هناك حضور طاغ لفن الأوبرا.
هنا في الفيلم الجديد، يعود آلن من جديد إلى كونه النيويوركي حيث جزيرة «كوني آيلاند» التي كانت حتى خمسينات القرن الماضي من أشهر المنتجعات، وتميزت بازدحام شاطئها وملاهيها. فالفيلم قبل أي شيء تحية إليها، بوصفها جزءاً من نسيج طفولته، وكان بإمكانه أن يختار اسمها عنواناً لشريطه الذي احتفى بثقافة وعمارة الخمسينات في الشوارع والملاهي، والملابس وتسريحات الشعر، مع الاهتمام بألوان قوية، ناصعة ودافئة مثل الأصفر والأزرق والأحمر. كأنه اعتنى هذه المرة بتجسيد المكان بكآبته ومرحه وألوانه، أكثر من عنايته بالحكاية والحوار.
الرجل.. المرأة
جميع أفلام آلن عن رجل وامرأة عرفها أو ارتبط بها، أو تمناها يوماً ما. والطريف أن زوجاته السابقات شاركن في عدد من أفلامه. غالباً تكون هذه المرأة «شقراء حسناء»، تتميز بالجموح والتمرد، وقوة الشخصية... مقابل الرجل العصابي المأزوم خصوصاً إذا كان هو البطل.
ولا تقدم حبكاته نفسها كأزمة بين قطبين متنافرين فقط، بل غالباً كصراع رباعي الأطراف، حيث يوجد دائماً «رجل وامرأة آخران» مثل شبحين، يساهمان في تعقيد المفارقات، سواء أخذت طابعاً تراجيدياً أو هزلياً. ويحدث أن يختفي مبكراً أحد أطراف المعادلة، لتبدو ثلاثية، فمثلاً انطلقت حبكة «نقطة المباراة» من أخ وخطيبته، وأخته وصديقها. ثم سرعان ما انسحب «الأخ» ليصبح الفيلم صراعاً ثلاثياً، لبطل معذب بين امرأتين: زوجته، وخطيبة أخيها السابقة. كذلك في فيلم «نهاية هوليوود»، تنسحب عشيقة المخرج، ليصبح الصراع ثلاثياً بين المخرج وطليقته وخطيبها المنتج.
وأياً كان عدد الأطراف، فإن أفلامه ستناقش حتماً معاني الحب، ولماذا لا يستمر إلى الأبد؟ ولماذا نكتشف غرابة أطوار من أحببناهم؟ وهل يمكن أن نحب شخصين في الوقت نفسه؟ كل سؤال من تلك الأسئلة يستطيع آلن أن يصمم له فيلماً، مع نقد لاذع دائماً لمؤسسة الزواج وكل ما يرتبط بها.
في «العجلة العجيبة» تتساند زوجة تجاوزت الأربعين لديها صبي من زيجة سابقة، على زوج أكبر منها سناً ويفتقر إلى الوسامة، لديه ابنة شابة من زوجة متوفاة. ثم يكتمل «الرباعي» بظهور الشاب مايكي (جاستين تيمبرليك)، الذي يعمل منقذاً على شاطئ «كوني آيلاند» حيث تتورط معه الزوجة في علاقة حميمة، لكن قلبه سرعان ما ينجذب إلى ابنة زوجها الشقراء الأصغر منها سناً.
المسرحة
لا يخفى ولع آلن بالمسرح، ولا تنضب إشاراته المسرحية في كل أفلامه، فالشاب المنقذ يدرس المسرح ويتحدث مع جيني عن كتابه المفضلين. حتى جيني نفسها كانت ممثلة مسرحية تقوض طموحها وانتهت نادلة. كما يمسرح آلن عادة فضاءه الفيلمي في أماكن محدودة يتم اختيارها بعناية، وكأنها مشاهد ممسرحة. فمعظم الأحداث تدور ما بين الشاطئ رقم7، وبيت «جيني» والحانة، ومدينة الملاهي. وفي المقطع الأول حين يعود الأب من الصيد ويفاجأ بوجود ابنته التي انقطعت عنه لخمس سنوات، يدور حوار لمدة سبع دقائق، وكأنه فصل في مسرحية.
أيضاً تأثر آلن- الذي نال عدداً وافراً من الترشيحات والفوز بالأوسكار، ككاتب أكثر منه كمخرج- بكبار المسرحيين، بل إن بعض حبكاته هي تحوير لمسرحيات معروفة. ويرتبط بالمسرحة قوة الحوار الدرامي الذي يتسم بالذكاء، والمفارقات، ويمتد طويلاً في بعض الأحيان. فالحوار في أفلامه أكثر قيمة من التتابع السردي للأحداث.
الجريمة والحظ
الملمح الخامس في الكون السينمائي عند آلن، ظلال جريمة، شعور باستحقاق العقاب عن خطأ تراجيدي. فالمافيا مهمة في العالم النيويوركي، فليس غريباً أن تتزوج شابة حسناء من زعيم عصابة، حيث ترى الشباب العاديين مملين. ثم يأتي اثنان من العصابة للبحث عنها، قبل أن تختفي فجأة كما ظهرت فجأة.
وبغض النظر عن مساحة الجريمة في أفلامه، أو تصويرها الهزلي أحياناً... فإن آلن يستغلها لمزيد من التشويق، ولكي يضع أبطاله في اختبار الندم.
من ناحية أخرى، يعبر هذا الملمح، عن وعيه المتشائم بالحياة كلها، بوصفها سلسلة من الكوارث والإحباطات، والجرائم، والمصادفات، والحظوظ العجيبة، مثل «عجلة عجيبة» دوارة بالبشر... وفوق هذا كله، فإنها شديدة القصر لا يلحق أحد أن يعيشها أو يحقق كل ما تمناه فيها.. هذا، إذا استطاع أن يستوعبها من الأساس. فقط يأخذ لفته في العجلة، ثم يطويه العدم والنسيان.