هيجيكي أمريكيّة
نوزاكا أكيوكي نوزاكا أكيوكي

هيجيكي أمريكيّة

في الرائعة الأدبيّة للكاتب الياباني نوزاكا أكيوكي، والتي ترجمها عبد الكريم ناصيف ضمن مختارات من الأدب الياباني المعاصر بعنوان: «الموت عند مصبّ النهر»، بيّن بصورة تجمع السخرية والذكريات الحافية، وضع الإنسان الياباني في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، والشكل الذي بات عليه هذا الإنسان بعد تهديمه من الداخل وهزمه ككائن اجتماعي فاعل.

تعريب: عبد الكريم ناصيف

يتحدث نوزاكا عن بطل قصته المدعو توشيو الذي يعيش الحاضر والماضي في صفحات القصّة. وتوشيو هذا يعمل كمدير ستوديو ينتج إعلانات تجاريّة. ويظهر معه عند استقباله لصديقه الأمريكي، بأنّه لم ينسى مهنته التي تعيّش منها بعيد الاحتلال: قوّاد. لقد استطاع بفضل إنكليزيته الرديئة أن يدبّر فتيات يابانيات للجنود الأمريكيين المنتصرين الذين كانوا يحملون معهم دوماً «شوكولا».

ويتحدّث توشيو عن المجاعة التي ضربت الناس، فيتذكر إحدى القصص التي تبعت إلقاء القنبلة على هيروشيما ودخول الجيش الأمريكي إلى البلاد. لقد كانت الطائرات ترمي أسطوانات تحمل الأحذية وأخرى تحمل العلكة وأخرى تحمل «الهيجيكي» (الهيجيكي هي أعشاب بحريّة ذات لون بني يتحوّل للأسود عند طهيها، وتتميّز برائحة وطعمة قويّة):

«كان هنالك مواد أكثر بكثير من أن يعطوها للأسرى، لذلك تولّى مجلس الحي مسؤوليّة توزيعها بالتساوي، وبسرعة، إذ ما من أحد يعلم متى يظهر الجيش الأمريكي. وكانت التعليمات واضحة. إن وجد شيء في البرميل عدا الطعام، فينبغي تقديم تقرير بذلك مباشرة. وإن تبيّن أن أحداً استولى على أيّ شيء كهذا لنفسه، فإنه يعدم مباشرة. ومع إطلاق التهديدات المستمرة، خصصوا برميلين لكل مبنى كبير، رغم أن كل امرئ حصل على شيء من البراميل احتفظ به لنفسه طبعاً. كذلك كان ينبغي أن تكون محتويات البراميل جاهزة للتوزيع في اليوم التالي أمام رابطة الشبيبة، غير أن كلّ شيء كان ملفوفاً باللون الأخضر وكان من المستحيل تماماً أن تميّز شيئاً من شيء. سأل رئيس مجلس الحي محاولاً أن يبتسم: هل يوجد أحد هنا يقرأ الإنكليزيّة؟ ...

فعلت أمي كما تصورت تماماً، فقد قامت بتقدمة البسكويت والسجائر أمام صورة والدي المعلقة في زاوية ملجئنا. ولم يخطر لي إلا فيما بعد أن هذه التعيينات الخاصة إنما حصلنا عليها من أمريكا. لكن إن كانت روح والدي تطوف في مكان ما، فما عساها تفكر بهذا كله؟ كان الأمر غريباً جداً – أن تقدّم لنفسك شيئاً يخصّ (الوحوش الشيطانيّة من الأمريكيين والإنكليز) الذين قتلوا أباك. ومن ثم تعمل منها تقدمة لروحه. ما هذا؟ سألت حين كان اضطرابي الأولي قد انتهى. كانت المادة الخيطيّة السوداء هي الشيء الوحيد الذي خيل إليّ أنّها بحاجة للطهو، لكن لا مذاقتها ولا رائحتها ساعدانا على أن نعرف ما هي. قلت لأمي: سأذهب لأسأل الناس. ولم أكن أشعر بشيء سوى رغبتي الطاغية في الأكل. خرجت وسألت العاملة في المصبغة، فأجابتني بأنّها لا تعرف وبأنها أكثر حيرة منا جميعاً. لا أدري، أظنّ أن عليك أن تنقعها حيناً من الزمن إلى أن تصبح طريّة ومن ثم تسلقها. إنّها تبدو أشبه بالهيجيكي. لم أكن أعرف الهيجيكي ولكنني سمعت بأنّها الطبق المفضل لدى صناعيي أوساكا وتجارها، وبأنّهم يطبخونها مع الفول المقلي. كان موقدنا المتشقق مربوطاً بعضه إلى بعض بواسطة سلك، لكنني أشعلت النار مباشرة ووضعت عليه إناء كنا أنقذناه من القصف، وحين بدأت أسلق المادة كما اقترحت عليّ عاملة المصبغة، تحوّل لون الماء إلى بني صدئ تزداد قتامته تدريجياً. سألت أمي: هل يفترض أن تكون الهيجيكي هكذا؟ فأتت إلي تتفحصها جارّة ساقها المصابة ورائها. المرارة ظاهرة فيها. إذاً الهيجيكي الأمريكيّة فيها قدر كبير من المرارة. حاولت أن أجففها وأغيّر الماء، لكنني لم أستطع التخلّص من اللون البني الصدئ. لكنّ الماء غدا صافياً بعد التغيير الرابع، وعند ذلك أضفت عليه ملحاً صخرياً وتذوقت طعمه بعد أن هدأ غليانه، فتبيّن أنّها مادة لزجة عديمة الطعم تماماً تشبه المعكرونة الصنعيّة السوداء التي يصنعونها من أعشاب البحر، ولكن أسوأ. لم ينفع مضغها، بل بدأت تلتصق بداخل الفم تماماً، وكان بلعها محال. عبست أمي وأختي حين جربتاها. دمدمت أمي: الأمريكيون يأكلون أشياء فظيعة أيضاً. لكننا بالتأكيد لم نستطع إلقائها بعيداً. ربما كان المن الممكن وقد سلقت أن تحفظ لبعض الوقت. فتركناها في الإناء وجددنا طعم أفواهنا ببعض العلكة التي كانت لفائفها الفضية تملأ الأزقة الضيقة الواقعة بين المنازل المدمرة. سأل رئيس مجلس الحي أحد الجنود عن هذه الهيجيكي بعد ثلاثة أيام، ثم أخبرنا: يقول أنّها شيء ما يدعى بواراكوتيه. إنّها نوع من أوراق الشاي التي يستعملونها في أمريكا. لكن عندما جاء الخبر، لم يكن قد ظلّ أثر لها في أيّ ملجأ من الملاجئ».