اختزال العالم في حلم المسرح المعاصر
يتطلب منا في هذه المرحلة البحث في بعض الإشكاليات التي تواجهنا مثل مصطلح مسرح ما بعد الدراما، ليكون مفتاحاً رئيسياً كنقطة مرجعية في المناقشات الدولية للمسرح المعاصر. لقد أجابت دراسة هانز ليهمان «مابعد الدرامية» على ضرورة نشوء نظرية لتوضيح العلاقة بين الدراما واللادراما للأشكال المسرحية منذ ستينيات القرن الماضي. لكنها أُهملت أو لم يتم اكتشاف النهج الذي قدمه هذا الشكل الجديد مقارنة بأشكال معاصرة أكثر تجريبية أو تبادلية.
ما بعد الدراما
يعرّف هانز ليهمان مسرح ما بعد الدرامية بأنه مصطلح يستعمل لوصف الاتجاهات الحديثة في المسرح منذ الستينيات بدلاً من جماليات المسرح التقليدي أو فنون الأداء. ويحدد مواصفاته بأنه مسرح لا يسعى إلى تحقيق شمولية التركيب الجمالي، إنما يسعى إلى إضفاء طابع تشذري لهذا التركيب، الشيء الذي يخول له اكتشاف عالم جديد للفرجة، وحضوراً متجدداً للفنانين وأفقاً واسعاً لتطوير مكونات مسرح ارتكز على الدراما. وهذا المسرح لا ينفي المسرح الدرامي الذي يظل حاضراً في الأشكال الجديدة التي تتبلور انطلاقاً من بنيته العامة، ولا يهتم بالصراعات بقدر ما يهتم بوسائل التعبير وتنوعها. مسرح يعكس حالة ويتعارض مع زمن إلغائي كان يقوم عليه المسرح الدرامي كون الزمن هو المركز. لا يرتكز على مبدأ الحدث والحكاية، إنما يقدم موقفاً أو حالة، والفضاء يعد عنصراً فاعلاً فيه، ثم تكتسي السينوغرافيا أهمية مادام النص دعامة أساسية للانجاز.
إن مسرح ما بعد الدراما هو طقس يسعى إلى تغيير المتفرج، لأن الفضاء يتحول إلى استمرار الواقع، ولهذا فإنه مسرح ملموس يعرض نفسه فناً عبر الفضاء والزمن والجسد، وهو إطار احتفالي لا مرجعية له كما أن العلامات المسرحية تبتعد عن دلالتها، بمعنى أنه يحتفي بحضور جسد الممثل في حد ذاته وليس إطاراً يولد الإيهام بحدث درامي، الجسد في الما بعد الدرامي هو جسد الحركة يرفض دوره كدال ويكتفي بحضوره الذاتي ما يجعل الممثل هو سبب ونتيجة لحضور المتفرج، أي هناك حضور متبادل بينهما.
بما أن مسرح ما بعد الدراما يعتمد على موقف، فإن الوسائل المسرحية لا تخضع لاختيارات تراتبية بما في ذلك العلامات، وما دامت قاعدة هذا المسرح هي اختراق المقولات، فإن المتفرج يجد نفسه غارقاً في هذه العلامات. ويختفي مفهوم الخلاصة لصالح بنية جزئية، ونموذج للحلم، وعملية البحث أو التواصل الذي يجب على المتفرج أن يقوم به، وكذلك الإيقاع الموسيقي للعرض، وانبثاق الواقعي المتخيل، أي كلما تم حصر العلامات، كلما تم التعرف على بعض المظاهر الجديدة.
تركزت دراسة ليهمان في العام 1996 على ظهور بنية شخصية درامية في المسرح الأمريكي المعاصر في علاقته بموضوع نظرية ما بعد الحداثة، وفي هذا السياق يمتحن العمل الجديد في علاقته بانهيار الاتفاقيات الدرامية. سعى ليهمان إلى إيجاد لغة لأشكال مسرحية جديدة، وفق نظام تلقائي في علاقته مع نظرية الدراما وتاريخ المسرح متضمناً تلك الأصداء مع «أشكال متشعبة» لأحداث المسرح الطليعي. ينظم فوكس مصطلح جمالية المسرح الجديد من جمالية الفضاء والزمن والجسد كما تم استخدامه في النص. على الرغم من أنه يستكشف أيضاً علاقة المسرح بتغيير مجموعة وسائل الإعلام في القرن العشرين، وخاصة في التحول التاريخي من ثقافة نصية إلى ثقافة صوت وصورة عبر الوسائل الثقافية. يعتمد ظهوره هنا على مجال واسع من تحليل نظريات جمالية لوسائل الإعلام من بنيامين وأدورنو إلى بارت، كتلر وماكلوهان وربما مفكرين مشهورين آخرين.
وتتناول دراسة ليهمان بانوراما مسرح ما بعد الدرامية، العرض والمشاهدين: نص، فضاء، زمان، جسد، وسائل الإعلام، تطور إيجابي عناصر تحليلية لوصف جماليات المسرح الجديد.
وعلى ضوء ذلك ندرك أن التلقي متحول أيضاً في مسرح ما بعد الدراما، حيث لا يخضع لرؤية خطية متلاحقة، إنما يخضع لإدراك متواقت لمنظوريات متعددة. المسرح الدرامي كان إبداعاً للإيهام، في حين أن مسرح ما بعد الدرامي هو تساؤل حول الإدراك، الجمهور فيه غير متجانس، والأذواق متعددة وربما متناقضة، وهذا يفسر جزئية الإدراك، لأن كل متفرج يدرك بطريقة مغايرة انطلاقاً من موقف خاص اختاره منذ البداية.
إعادة الواقع
العالم الموضوعي وهم، لذلك لا يمكن الكشف عن وسائل تفكيك أداء مسرح ما بعد الدرامي كما يعبر مايك بليكر في محاورته والذي يستخدم اللوحة نموذجاً لاستعارة المفاهيم أو الكشف لمساعدة رؤية المسرح في ضوء جديد. يبرر بليكر تحليل ليهمان الذي يستبدل إطار التوجيه خلال المعنى في المسرح الدرامي والأطر التي تمنح مشاهدة المفارقة من خلال حيرته وقدرة معرفته بما هو موجود في تلك اللحظة عما هو يليه. فاستخدم بليكر تحليل إيفلين كيلر في المحاولات الحديثة لتكوين وجهة نظر غير مرئية في موضوع شخصي وخلق واقع منظور. فلا يمكن أن يعمل الخطاب دون الانخراط في وجهة نظر فريدة وإن كان مستتراً في الذاتية الكامنة لتمثيل الواقع ما جعل منه غير مرئي خلال عدد لا يحصى من التقنيات.
إن أثر الاستراتيجيات هو اختفاء الوعي التمثيلي عن التمثيل من منظور الواقع ليصبح غير مرئي، ليس لعدم وجود وجهة نظر، بل تأسيساً للموضوعية. تقدم معضلة الذاتية التي يمكن أن نرى في العمل مفاهيم الرؤية، ينظر إليها وإلى مساواتها مع ما هو أكثر من هناك باعتبارها مستقلاً عن أي مراقب خاص. هذا يعني أن بليكر يستخدم مبررات فوكس التي تشير إلى أن تعريف العالم الموضوعي هو مجرد وهم، وهذا الأمر بالغ الأهمية النقدية في كيفية الرؤية في المسرح. ربما تكون الرؤية مستترة لكنها ليست غائبة، بينما ليهمان يحدد تصحيح المغالطة في رؤية موحدة ممثلة في المسرح، فيكشف هذا المنظور أطر مسرح ما بعد الدرامية «هو منظور اصطناعي»، وبالتالي يعلن عن كشف الأطر من مسرح ما بعد الدراما ما يدل على أن العالم مخادع بالتساوي، وهذا هو هدف العالم وكشفه، إما من خلال التركيب المتطور الذي يحاكي الطبيعة إلى أقصى طاقتها، أو من خلال وسائط البنية واستحالة أشكال ما بعد الدرامية.
كلا المنظورين الصناعي والتفكيكي يصبحان أكثر وضوحاً من خلال الأطر الفكرية لتأسيس موضوعية العالم كما هو في الفكر، وهذا يشير إلى احتمال وجود قراءة مختلفة من وجهة نظر التفكيكية في مرحلة ما بعد الدرامية، ولا يُفهم من القراءة التفكيكية الوصول إلى الميتافيزيقيا، كما مُنع في إطار الدراما، لكن يمكن النظر إلى هذا الأسلوب الذي يؤسس الوجود كما هو واقع الأمر.
بليكر يقدم هنا مبررات ما بعد الحداثة ضد شمولية الواقع أو إعادة تقديمه، من الطبيعي وجود معرفة عميقة للمشاكل. هناك الكثيرون ممن كتبوا عن محاولات فعل الجسد كنظرية ما بعد الدراما للإشارة إلى إيحاء تمثيل حقيقي يمكن اعتباره نسبية والوصول إلى كشف الميتافيزيقيا عن موضوع حقيقي دون وساطة تعيق تجربة المتفرج مع الاحتفاظ بمفاهيم المعاكسة مثل التمثيل والحضور والنسبية إضافة إلى بيان ما بعد الدراما مع الحداثيين الذين يريدون الاتصال بالعالم الحقيقي. كلاهما يسعيان إلى خطة موضوعية حرة لموضوع النزوة والعاطفة عندما تحجب الطاقة.
مع ذلك، فقراءة فوكس حول إمكانيات نموذج مسرح ما بعد الدرامية تشير إلى أن ازدواجية الحقيقة شيء تتناقض مع وهمية شكل الدراما واعتقاد الدرامية لجلب وكشف معنى منظور في ذهن المتفرج. تبصر قضية العراف عندما يفهمها كتمثيل ثانوي غير حقيقي لسؤاله: ماذا يبدو هناك؟ «توحي قراءة فوكس التفكيكية إمكانية رؤية الطبيعية، ما يبدو أن هناك رؤية تكون ثانوية وتتجلى بوضوح على أنها علامة».
كما يشير فوكس إلى العالم الموضوعي من وجهة نظر معينة بالقدر نفسه يبني الخطوط التي تلبي الاحتياجات الإنسانية والتوقعات والرغبات كما هي الصورة الأكثر وضوحاً لبنية رفض المنظور. ليس لأنه تأطير قصدي على هذا النحو عن طريق البناء الذي يتركب من رؤية الواقع كما هي، بل لأن ظهور الهدف لمجرد النظر إليه، يعني وجهة نظر تجاهها، وهي رؤية العالم كما هو. نموذج المنظور كتعريف لعلاقة غامضة بين ما ينظر إليه على هذا النحو يمكن أن تساعد على كشف هذه العلاقة. فالموضوع بعد كل هذا، يعني أن يكون مكرساً لاستكشاف الدراماتورجية الناشئة من مسرح الرسوم المتحركة.
ويمكن اعتبار أداء ما بعد الحداثة أن يعبر عن نفسه في مجموعة خصائص وصفات، في حين أن ليهمان يشير إلى أن هذا ينطبق على ما بعد الدرامية للأسباب نفسها، إنه من السهل اعتماد تلك الخصائص عبر وسائط مسرح ما بعد الحداثة لتحديد الأداء من قبل الفنانين، وجرى تحليله من قبل كاي وفوكس كفناني ما بعد الحداثة.
ويمكن تلخيص نظرية ما بعد الدرامية حسب المواضيع الدراماتورجية المتكررة «على عكس الموضوع نفسه»، لفهم صورة العالم الحقيقي في أداء الحياة على شكل درامي كونه يخلق واقعاً يتشكل من مجموع الوقائع شبه الكاملة لاكتمال النماذج الجديدة، يقول ليهمان:
الكمال والوهم وعالم التمثيل متأصل في نموذج الدراما الذي يعلن من خلال شكل المسرح الدرامي بأنه نموذج حقيقي. وينتهي المسرح الدرامي عندما لم تعد هذه العناصر تنتظم في المبدأ،لكنه مجرد متغيرات في الفن المسرحي.
الملحق الثقافي ـــ الثورة