اختفاء الوظائف في أمريكا!
مع استمرار الإغلاق الحكومي الفيدرالي، ينهار المشهد الاقتصادي الأمريكي في صمتٍ وغموض. فللمرة الأولى منذ عقود، لا يوجد تقريرٌ رسميٌّ شهريٌّ عن العمالة صادر عن «مكتب إحصاءات العمل الأمريكي» – الهيئة نفسها التي يشكّك كثيرون اليوم في مصداقيتها بعد أن تدخل البيت الأبيض للتحكم في توقيت نشر بياناتها، عقب صدور تقرير وظائف ضعيفٍ في وقتٍ سابقٍ من هذا العام. وفي هذا الفراغ، برزت شركاتٌ خاصة لتقدّم تحليلاتٍ مستقلة تُظهر أن البلاد تفقد الوظائف والثقة في آنٍ معاً.
ستايسي ام براون
كشف «تقرير التوظيف الوطني» الصادر عن شركة «ADP» أن أرباب العمل في القطاع الخاص فقدوا 32000 وظيفة في أيلول، ما عكس المكاسب الطفيفة التي تحققت في الصيف. وارتفع متوسط الأجور السنوية للعاملين الذين احتفظوا بوظائفهم بنسبة 4.5%، ما يشير إلى أن الأجور ترتفع ببطء حتى مع تباطؤ التوظيف. وقالت كبيرة الاقتصاديين في «ADP» الدكتورة نيلا ريتشاردسون: «على الرغم من النمو الاقتصادي القوي الذي شهدناه في الربع الثاني، فإن إصدار هذا الشهر يؤكد ما نراه في سوق العمل، وهو أن أرباب العمل الأمريكيين يتوخّون الحذر في التوظيف». وأظهرت بيانات «ADP» أكبر الخسائر في قطاعات التصنيع والبناء والخدمات المهنية، فيما تكبدت الشركات الصغيرة والمتوسطة أقسى الضربات. خسر الغرب الأوسط 63000 وظيفة، ولم تتمكن المكاسب في الغرب من تعويض التراجع.
وجاء «تقرير التوظيف» الصادر عن «مؤسسة بنك أوف أمريكا» ليؤكد الصورة نفسها، إذ وجد «استمراراً في تباطؤ سوق العمل». وأظهرت بياناته ارتفاعاً بنسبة 10% على أساسٍ سنوي في مدفوعات إعانات البطالة المودعة في حسابات العملاء، أي ما يقارب ضعف الزيادة الأخيرة التي أبلغت عنها الحكومة قبل الإغلاق. وما زال العمال ذوو الدخل المنخفض متخلفين عن غيرهم، إذ بلغ نمو الأجور بعد الضريبة لديهم 1.4% فقط مقارنة بـ 4.0% للأسر ذات الدخل الأعلى.
أما «غولدمان ساكس» فقد أصدر تقديراته الخاصة بعد أن أجبرته «وزارة العمل» على وقف نشر البيانات. وقدّر المصرف الاستثماري أن طلبات إعانات البطالة الأولية ارتفعت إلى 224000 في الأسبوع المنتهي في 27 أيلول، مقارنة بـ 218000 في الأسبوع السابق. فيما انخفض عدد المستفيدين قليلاً إلى 1.91 مليون شخص، بناءً على بيانات الولايات والتعديلات الموسمية التي كانت قد نُشرت قبل الإغلاق. وأفادت وكالة «رويترز» أن «بنك الاحتياطي الفيدرالي في شيكاغو» استخدم مؤشراتٍ خاصة «لحظية» لتقدير معدل البطالة الوطني عند 4.3%، إلّا أن هذا الرقم يبقى غير مؤكد من دون تحققٍ حكومي.
ودخلت شركة الاستثمار العالمية «كارلايل» على الخط أيضاً، فأصدرت مؤشراتٍ اقتصادية مستندة إلى محفظتها التي تضم 277 شركة ونحو 730000 موظف. وقدّرت «كارلايل» أن أرباب العمل الأمريكيين أضافوا 17000 وظيفة فقط في أيلول، وأن الإنفاق الحقيقي في قطاع البناء السكني الخاص انخفض بنسبة 2.5%، رغم ارتفاع الاستثمار التجاري بنسبة 4.8% مدفوعاً بمشروعات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. وقال جايسون توماس، رئيس قسم الأبحاث والاستراتيجيات الاستثمارية في «كارلايل»: «ما يزال الإنفاق المؤسسي، وخصوصاً في مجالات التكنولوجيا والبنى التحتية للذكاء الاصطناعي، يحرّك عجلة النمو بينما ينهي الاستهلاك الأسري الربع على نغمةٍ إيجابية».
لكن فيما تملأ التحليلات الخاصة الفراغ الذي خلّفه صمت الحكومة الفيدرالية، أصبح تأثير الإغلاق على العمال والأسر هو السمة الأبرز لهذه الأزمة.
فقد كشفت مذكرة جديدة صادرة عن «مكتب الإدارة والميزانية» أن الموظفين الفيدراليين الذين أُجبروا على الإجازة غير المدفوعة خلال الإغلاق الجاري، قد لا يتقاضون رواتبهم المتأخرة بعد انتهاء الأزمة. وفي تحدٍّ صريحٍ للقانون، تزعم الإدارة أن «قانون معاملة الموظفين الحكوميين بإنصاف» لعام 2019 لا يضمن تلقائياً دفع الأجور للعاملين الذين أُرسلوا إلى منازلهم، أو أُمروا بالعمل من دون مقابل. الحكومة التي كانت تعد بالإنصاف، أعلنت الآن أن من يخدمها يمكن الاستغناء عنه. ليست هذه فوضى، بل سيطرة. كتب مارك باوليتا، كبير محامي الإدارة في المكتب، أن على الكونغرس تمرير تشريعٍ جديدٍ للسماح بتلك المدفوعات، وهو ما وصفه مسؤولٌ جمهوري سابق بأنه «يتعارض بوضوح مع نية القانون». بمعنى آخر، أعادت الحكومة كتابة القانون لتبرير معاقبة من يُبقونها قائمة.
لم يُظهر الرئيس ترامب أي تعاطف، بل الكثير من الازدراء. فعندما سُئل عمّا إذا كان الموظفون الذين أُجبروا على الإجازة سيتقاضون رواتبهم، أجاب: «يعتمد على من نتحدث عنهم. هناك بعض الأشخاص الذين لا يستحقون أن نعتني بهم، وسنعتني بهم بطريقةٍ مختلفة». تلك الكلمات لا تصدر عن قائد، بل عن حاكمٍ يقيس قيمة الإنسان كما لو كانت عملة. في أنحاء البلاد، يعيش الملايين تبعات تلك الكلمات. عائلات الموظفين الفيدراليين تحدّق في برّاداتٍ فارغة– إذ تشير التقديرات الأخيرة إلى أن أكثر من 49000 من سكان العاصمة، أي نحو 13%، يعملون في وظائفٍ حكومية– وتتراكم إشعارات الإيجار. وذكرت «سي إن إن» أن كثيرين سيتلقون هذا الأسبوع رواتب أصغر، وقد تكون الأخيرة إلى أن ينتهي الإغلاق. أيّ ديمقراطيةٍ تستخدم الجوع سلاحاً ضد مواطنيها؟
كما تتناقض مواقف الإدارة مع موقف «مكتب إدارة شؤون الموظفين»، الذي أعلن أن «الموظفين الذين أُجبروا على الإجازة بسبب التوقف، سيتلقّون رواتبهم بأثرٍ رجعي لتلك الفترات» بعد انتهاء الإغلاق. غير أن هذا البيت الأبيض لا يحكم بالقانون، بل بالولاء. فهو يكافئ الطاعة ويعاقب المعارضة. يحكم بالتهديد والإذلال. وبينما تبقى الحكومة مغلقة والبيانات الرسمية محجوبة، يُترك العمال الأمريكيون– في القطاعين العام والخاص– ليرسموا بأنفسهم صورة وطنٍ يترنّح اقتصادياً وأخلاقياً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1251