الدولار: هل تُلدغ الولايات المتحدة كما لُدغت بريطانيا قبلها؟
ويليام بيسك ويليام بيسك

الدولار: هل تُلدغ الولايات المتحدة كما لُدغت بريطانيا قبلها؟

رغم أنّ الدولار الأمريكي يسير في مسارٍ هبوطي طوال العام، إلّا أنّ الانخفاضات الأخيرة تحمل دلالات أكثر إثارة للقلق. فالخسائر تأتي بالتزامن مع ارتفاع عوائد سندات الخزانة الأمريكية. عادة، يكون ازدياد الفارق في أسعار الفائدة بين الولايات المتحدة وغيرها عاملاً إيجابياً لصالح الدولار. ومع ذلك، فإنّ تراجع الدولار بنسبة 13.5 بالمئة هذا العام يبدو وكأنه يتسارع بطريقة تستدعي الانتباه، بحسب الاقتصادي روبين بروكس.

تعريب: أوديت الحسين

تذكير بأزمة المملكة المتحدة عام 2022

أحد الأسباب الرئيسية لهذا القلق هو التشابه بين التفاعل الحالي بين أسعار الفائدة الأمريكية والدولار، وما شهدته المملكة المتحدة في أواخر عام 2022 فيما يمكن اعتباره أزمة ديون.

يقول بروكس، الاقتصادي في مؤسسة بروكينغز: «تتزايد المؤشرات على أنّ علاوة المخاطر نفسها قد بدأت بالتكوّن بالنسبة للدولار الأمريكي»، مشيراً إلى أنّ «سنوات عديدة من السياسات المالية المتساهلة جداً قد بدأت تصل إلى نقطة الذروة، وسط حالة من عدم اليقين بشأن الرسوم الجمركية».

يعيد هذا الوضع إلى الأذهان ملاحظة وارن بافيت الشهيرة: «فقط عندما ينحسر المدّ، تكتشف من كان يسبح عارياً». ولا توجد دولة متقدّمة تمثل مثالاً أوضح لمحاولة السباحة عارياً أكثر من الولايات المتحدة، مع وصول ديونها العامة إلى أكثر من 37 تريليون دولار.

تكرار تجربة تروس؟

الزمن وحده سيكشف إن كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والجمهوريون يغامرون بتكرار لحظة أزمة بريطانيا، خاصة بعد أن أضاف «مشروعهم الكبير والرائع» نحو 4 تريليونات دولار إلى العجز الفيدرالي – وهو مبلغ يعادل الناتج المحلي الإجمالي السنوي لليابان – ما قد يثير اهتمام وكالات التصنيف الائتماني مثل «ستاندرد أند بورز»، و«فيتش»، و«موديز».

يرى بروكس أنّ أغلب التعليقات حتى وقت قريب بشأن تراجع الدولار كانت مبالغاً فيها، نظراً لأن جزءاً كبيراً من هذا التراجع منذ بدء عهد ترامب الثاني في كانون الثاني 2025 كان ناتجاً عن إعلان ألمانيا المفاجئ عن حزمة تحفيز مالي في آذار، ما أدى إلى انخفاض الدولار بنسبة 4 بالمئة مقابل سلة العملات. وباحتساب هذا العامل، يكون الدولار قد بقي مستقراً تقريباً منذ يوم الانتخابات في 5 تشرين الثاني.

غير أنّ بروكس يضيف: «بدأت ديناميكية أكثر إثارة للقلق تسيطر في الأسابيع الأخيرة، حيث هبط الدولار بشدة مقابل عملات مجموعة العشر، رغم ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية، وهو أمر كان في السابق داعماً للدولار».

تكرار لسيناريو الجنيه الإسترليني؟

ما يثير القلق بشكل خاص هو أنّ «الدولار بات يتراجع حتى في ظل ازدياد الفارق في أسعار الفائدة»، بحسب بروكس، مضيفاً أنّ هذا الجمع بين عملة ضعيفة وفارق أسعار فائدة مرتفع «مقلق للغاية»، ويذكّر بأزمة المملكة المتحدة في عام 2022، عندما شهدت البلاد ارتفاعاً في العوائد وانهياراً في الجنيه الإسترليني، في ما تمّ اعتباره أزمة ديون فعلية.

في تلك الأزمة، حاولت رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك، ليز تروس، تمرير تخفيض ضريبي كبير غير ممول، متحدّية ما يُعرف بـ«حراس سوق السندات». وكانت النتيجة كارثية: انهار سوق السندات البريطانية، وبدأت إحدى الصحف الشعبية في بث مباشر لرأس خسّ بجانب صورة لتروس، لمعرفة أيّهما سيصمد أكثر. وقد فازت الخسّ.

الدين الأمريكي: من مجرد رقم إلى قيد استراتيجي

لطالما طُرحت فكرة أنّ الولايات المتحدة قد تواجه انهياراً مشابهاً منذ أزمة 2008، التي كانت نقطة تحوّل في تسارع تراكم الدَّين الأمريكي، مع سعي واشنطن حينها لبرامج تحفيز ضخمة.

وقد أدّى ذلك إلى أن تُسحب تصنيفات «AAA» من الولايات المتحدة لأول مرة من قبل «ستاندرد أند بورز» عام 2011، عندما كان الدين 14 تريليون دولار. ثم جاءت أزمة «كوفيد-19» التي ضاعفت الاقتراض الحكومي. وعندما خفّضت وكالة «فيتش» التصنيف إلى «AA+» في آب 2023، كان الدين قد بلغ 31.4 تريليون دولار.

وأخيراً، في أيار الماضي، سحبت «موديز» التصنيف الممتاز الذي حافظت عليه منذ عام 1919. وعلّق المحللون: «فشلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة والكونغرس في الاتفاق على إجراءات تعكس المسار التصاعدي للعجز السنوي وتكاليف الفائدة المتزايدة».

اعتبر الاقتصادي داريل دافي من جامعة ستانفورد ذلك «دعوة للاستيقاظ» للكونغرس «كي يضبط نفسه، إما بجمع المزيد من الإيرادات أو خفض الإنفاق».

لكن ما حدث هذا الأسبوع كان العكس تماماً، إذ أضاف الكونغرس إلى العجز الفيدرالي ما يعادل حجم اقتصاد روسيا مرتين!

من المخاوف المالية إلى القيود الجيوسياسية

قال سبنسر حكيميان، الرئيس التنفيذي لصندوق التحوط «تولو كابيتال مانجمنت»، لوكالة رويترز، إنّ تقرير «موديز» سلط الضوء على «استمرار نهج طويل من التسيّب المالي، ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض للقطاعين العام والخاص في الولايات المتحدة».

أما الاقتصادي فيليب لاك من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، فيرى أنّ هذا التخفيض الأخير «ليس مجرد حدث تقني في السوق – بل يعكس توافقاً ناشئاً على أنّ عبء الديون المتزايد للولايات المتحدة قد تحوّل من كونه خطراً مجرّداً إلى قيد استراتيجي على القوة والقيادة الأمريكية».

ويضيف لاك أنّه مع ارتفاع تكاليف الاقتراض وضيق الحيّز المالي، «يصبح الرابط بين الديون والأمن القومي أكثر وضوحاً». ومع تجاوز مدفوعات الفائدة للإنفاق الدفاعي، وتباطؤ النمو العالمي، وتسارع الضغوط الديموغرافية، تواجه الولايات المتحدة خيارات صعبة.

156% من الناتج المحلي بحلول 2055؟

يتوقع لاك أنّه بلا إصلاحات، فإنّ الدين الأمريكي سيصل إلى 156 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2055، مما يهدد بتآكل قوة الولايات المتحدة في زمن التنافس الحاد بين القوى العظمى.

ويحذر من أنّ «أخطر تهديد قد لا يكون اقتصادياً، بل نفسياً: الاعتقاد الزائف بأنّ هيمنة الدولار تحصّن الولايات المتحدة من تبعات التهور المالي».

ومع اقتراب الدَّين الفيدرالي من 160 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وازدياد استهلاك الفوائد لحصة أكبر من الميزانية، يحذّر لاك من أنّ الاستثمارات الحيوية في الدفاع والدبلوماسية والأولويات المحلية باتت في خطر.

ويختم بالقول: «قد تخسر الولايات المتحدة ليس فقط تصنيفها الائتماني، بل قيادتها العالمية – تماماً كما حذّر الاقتصادي آدم فيرغسون قبل قرون، من أن الأمم قد ترهن حريتها بسبب الديون المفرطة». وبرغم أنّ واشنطن لا تزال تتمتع بقوة اقتصادية واستراتيجية كبيرة، فإنّ هذه القوة مرشّحة للتآكل ما لم يتم اعتماد إصلاح مالي جذري. فالتاريخ يعلّمنا أنّ القوى العظمى نادراً ما تسقط بسبب تهديدات خارجية فقط، بل غالباً ما تنهار بفعل قراراتها الذاتية غير المستدامة.

نقطة الانفجار

من المحتمل أن تصبح آسيا نقطة التفجّر التالية، إذ تجلس طوكيو على سندات خزانة أمريكية بقيمة 1.1 تريليون دولار، بينما تملك بكين نحو 770 مليار دولار، ويبلغ إجمالي انكشاف آسيا على الدَّين الأمريكي أكثر من 2.5 تريليون دولار.

وبالعودة إلى عام 2009، عبّر رئيس الوزراء الصيني آنذاك، وين جياباو، عن مخاوف بلاده قائلاً: «لقد قدمنا قروضاً ضخمة للولايات المتحدة. وبالطبع، نحن قلقون على سلامة أصولنا». وطالب واشنطن «بالوفاء بوعودها، وأن تبقى دولة جديرة بالثقة، وأن تضمن سلامة الأصول الصينية».

في ذلك الوقت، لم يكن الدين الأمريكي يتجاوز 12 تريليون دولار. أما اليوم، فقد تجاوز ثلاث مرات هذا الرقم، بينما تنظر وكالة «موديز» فيما إذا كانت ستبقي على آخر تصنيف «AAA» متبقٍ لواشنطن.

ونختم بقول بروكس: «هذا النوع من التحركات المعاكسة للأسعار أمر غير معتاد إطلاقاً بالنسبة للدولار، وقد يكون مؤشراً على أنّ سنوات السياسة المالية المتساهلة جداً، وعدم اليقين بشأن الرسوم الجمركية، بدأت تؤدي إلى لحظة الحقيقة – اللحظة التي تُقاس فيها الثقة العالمية بالولايات المتحدة فعلياً».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1233