ترامب و«النهضة الصناعية» الكاذبة: بين الحلم الحمائي والواقع النيوليبرالي
حين أعلن دونالد ترامب عن سياساته الجمركية المثيرة للجدل، بدا وكأنه يحيي ماضياً صناعياً مجيداً للولايات المتحدة. كان يتحدث عن الحماية، وعن الضرائب الجمركية، وعن إعادة المصانع إلى أمريكا، وكأنّه يستدعي روح العصر الذهبي في نهايات القرن التاسع عشر. لكن خلف هذه الواجهة الشعبوية، كان هناك مشروع مختلف تماماً: مشروع نيوليبرالي متخفٍّ في عباءة قومية اقتصادية، لا هدف له سوى خفض الضرائب على الأغنياء وتمكين الطبقة الريعية المالية من الاستحواذ الكامل على مفاصل الدولة والاقتصاد.
ترجمة: قاسيون
من الحماية إلى الامتياز الطبقي
للوهلة الأولى، قد يبدو أنّ ترامب يحيي تقليداً أمريكياً قديماً: تمويل الدولة من الرسوم الجمركية، لا من الضرائب على الدخل. بالفعل، هذا ما حدث في القرن التاسع عشر، قبل إقرار ضريبة الدخل التصاعدية عام 1913. لكن ما يتجاهله ترامب في روايته، أنّ الرسوم الجمركية آنذاك لم تكن سياسة قائمة بذاتها، بل كانت جزءاً من مشروع شامل للتنمية الصناعية بقيادة الدولة، هدفه خلق بيئة إنتاجية تنافسية، عبر دعم البنية التحتية، وتمويل التعليم، وضبط الأسعار، وتنظيم الأسواق.
أما في مشروع ترامب، فقد جرى تجريد الرسوم الجمركية من أي محتوى تنموي، وتحويلها إلى أداة تمويل بديلة لإلغاء ضريبة الدخل على الأثرياء. لقد قدّم مشروعه كنوع من «العودة إلى الجذور»، لكنه في الحقيقة لم يكن سوى قناع لإعادة توزيع الثروة صعوداً إلى طبقة المانحين السياسيين الذين ينتمون إلى قطاع المال والعقارات والاحتكارات.
خرافة إعادة التصنيع
يروّج ترامب لفكرة أنّ الرسوم الجمركية كفيلة بإعادة المصانع إلى الولايات المتحدة، لكن هذا مجرد تبسيط ساذج أو مخادع. فالتصنيع لا يعود فقط عبر الحواجز الجمركية، بل يتطلب بيئة إنتاجية متكاملة تشمل أجوراً قابلة للعيش، وسككاً حديدية، وطاقة رخيصة، وتعليماً عاماً، ونظاماً صحياً يضمن إنتاجيّة العمل. أما ترامب، فقد اتخذ مساراً معاكساً تماماً: ألغى الإنفاق على البنية التحتية، وقلّص المساعدات الاجتماعية، وواصل خصخصة القطاعات العامة، ودافع عن تخفيضات هائلة للضرائب المفروضة على الأغنياء.
الأدهى من ذلك أنّ هذه السياسات لم تؤدِّ إلى عودة أيّ صناعة تُذكر، بل سبّبت تسريحات واسعة للعمال، وارتفاعاً حاداً في الأسعار، واضطراباً في سلاسل التوريد، دون أن تُحسّن الميزان التجاري أو تُعزّز الطاقة الإنتاجية للولايات المتحدة.
تكاليف المعيشة
تقضي على «أمريكا الصناعية»
كان من أهم مبادئ السياسات الصناعية الأمريكية في القرن التاسع عشر فكرة أنّ مستوى معيشة العمال لا يعتمد فقط على الأجور، بل على تكلفة الحياة أيضاً. لذلك أنشأت الدولة مدارس عامة، ومستشفيات عامة، واستثمرت في البنية التحتية لتخفيض كلفة المعيشة والإنتاج. أما في عهد ترامب، فقد شهدت البلاد انفجاراً في تكاليف السكن والرعاية الصحية والتعليم، وهو ما جعل العامل الأمريكي –رغم دخله الأعلى نسبياً– غير قادر على المنافسة في السوق العالمية، وغير قادر على الادخار أو الاستهلاك بما يكفي لدعم الصناعة المحلية.
والنتيجة؟ دخول 60 بالمئة من الأسر الأمريكية في دائرة الديون، وتراجع معدلات تملّك المنازل، وارتفاع تكلفة المعيشة إلى مستويات غير مسبوقة، في الوقت الذي حافظت فيه الصين –منافس أمريكا الأول– على نظام إنتاجي منخفض التكلفة بفضل الاستثمار العام والدعم الحكومي المباشر.
«المانحون» أولاً... ثم الاقتصاد
من يتأمل السياسات الاقتصادية لترامب، لا بدّ أن يلحظ هذا التناقض الصارخ: من جهة، يتحدث عن إعادة التصنيع، ومن جهة أخرى، يحرص على تخفيض الضرائب المفروضة على الريعيِّين. فبينما كان الصناعيون في القرن التاسع عشر يطالبون الدولة بمصارف وطنية وتمويلات عامة للبنية التحتية، حرص ترامب على تقليص الدولة وتفكيك وظائفها وتحويلها إلى القطاع الخاص – لصالح طبقة صغيرة من المستثمرين ومديري الصناديق المالية.
ومن المفارقات أنّ ترامب، رغم كراهيته الظاهرة للنخب التقليدية، أعاد إنتاج هيمنة الطبقة الريعية التي تملك العقارات، والبنوك، والاحتكارات، وجعلها تتحكم ليس فقط بالسياسة، بل بجميع وظائف الاقتصاد. فقد تمّ تحويل المرافق العامة إلى أدوات للربح، وفرضت رسوم احتكارية على الكهرباء والماء والإنترنت والمواصلات، بينما جرى تفكيك خدمات البريد، والتأمين الصحي، والرعاية الاجتماعية، تحت شعار «الكفاءة».
الإمبراطورية التي تأكل نفسها
على الصعيد الدولي، تحوّلت سياسات ترامب الحمائية إلى سلاح اقتصادي للابتزاز السياسي. لقد فرض تعرفة جمركية بنسبة 145% على الصين، وبنسبة 10% على بقية دول العالم، متوعداً بخفضها فقط لمن يُقدم تنازلات. كانت هذه محاولة لإعادة تعريف التجارة العالمية على أساس القوّة لا القانون. لكنّ ما حدث هو العكس: بدأت الدول بالابتعاد عن السوق الأمريكية، والتفكير ببدائل من خارج النظام المالي الذي تهيمن عليه واشنطن.
بدأت دول آسيا وأمريكا اللاتينية تتحدث عن أسواق تجارية بديلة، وظهر تحوّل عالمي نحو «فك الارتباط بالدولار de-dollarization»، وهو ما يشكل تهديداً خطيراً للهيمنة المالية الأمريكية. والأسوأ أنّ سلاسل التوريد الأمريكية تأثرت سلباً، مما تسبب ببطالة متزايدة، وركود صناعي، وارتفاع في أسعار السلع المستوردة التي لم تعد تأتي بسهولة من الخارج.
وعد ترامب بعصرٍ ذهبي جديد، لكنه قدّم سياسات تقود إلى العكس تماماً. لم تخلق سياساته وظائف، بل سرّحت العمال. لم تُنقذ الصناعة، بل حمَتْ الصناعاتِ العاجزة. لم تُعِدِ التوازنَ إلى التجارة، بل أدخلت أمريكا في حروب تجارية خاسرة. وفي النهاية، لم تؤدِّ سياساته إلّا إلى تسريع الاستقطاب الطبقي والمالي في الداخل، وإضعاف الثقة الدولية في الاقتصاد الأمريكي.
إنَّ إعادة التصنيع الحقيقي لا يمكن أن تتمّ من دون استثمار عام في البنية التحتية، والتعليم، والرعاية الصحية، والتنظيم العادل للأسواق، وفرض ضرائب على الريع والمضاربة. وهذه بالضبط السياسات التي حاربها ترامب، والتي لا تزال تتعرض للهجوم من قبل اللوبي النيوليبرالي الذي يمثله.
ربما كان ترامب يؤمِن فعلاً أنّ الرسوم الجمركية قادرة على إعادة «عَظَمة» أمريكا، لكنّ السياسات التي تبنّاها كانت موجَّهة لخدمة الأغنياء، لا الطبقة العاملة. وقد أثبتت السنوات الماضية أنّ الحماية الاقتصادية لا تساوي شيئاً إذا لم تُرفَق بسياسات اجتماعية واستثمارية تخفِّف كلفةَ المعيشة وتعيد توزيع الثروة بعدالة.
المفارقة التي تضعف سردية ترامب بشكل خاص هي أنّ النموذج الذي يدّعي إحياءه –أي نموذج النهضة الصناعية الحمائية– لم يعد يُمارَس في الولايات المتحدة، بل في الصين. فالحكومة الصينية، في السنوات الأخيرة، لم تكتفِ بدعم الصناعات الثقيلة والتكنولوجيا المتقدمة، بل حافظت على سيطرتها على النظام المصرفي، وموّلت مشاريع عملاقة للبنية التحتية، وقدّمت خدمات عامة مثل النقل والتعليم والرعاية الصحية بأسعار رمزية.
هذا تماماً ما فعلته الولايات المتحدة خلال نهضتها الصناعية: أبقت المرافق العامة في متناول الجميع، ووجّهت السوق لخدمة الإنتاج وليس الربح المالي فقط. أما ترامب، فقد فعل العكس تماماً: حرَّر السوق لصالح الريع، وترك العامل الأمريكي يدفع تكلفة السكن والطب والتعليم والفائدة، بينما ارتفعت ثروات كبار المستثمرين.
ولعلّ الفارق الأهم هو أنّ الصين لم تسمح بظهور «طبقة مانحين» تتحكم بالحكم والسياسة، كما حدث في الولايات المتحدة. لقد حدّت من التأثير السياسي للأثرياء، وفرضت ضوابط صارمة على استخدام الثروة في التأثير على الرأي العام أو التشريع. أما في أمريكا، فقد أصبحت الثروة طريقاً للسلطة، والسلطة وسيلة لتكديس الثروة، في حلقة مفرغة من الإفساد المتبادل.
يبدو أنّ ترامب، في جوهر مشروعه، لم يكن يطمح إلى قيادة انطلاقة إنتاجية جديدة بقدر ما أراد إدارة مرحلة من الاستهلاك المفرط والسيطرة السياسية الخارجية عبر أدوات القوة الاقتصادية. وهذا واضح في أسلوبه التفاوضي مع الدول الأخرى: التهديد بالرسوم، المطالبة بالتنازلات، فرض العقوبات... دون أي محاولة لبناء شراكات استراتيجية أو تنمية صناعية طويلة الأمد.
إنّه نمط من «الإمبريالية التجارية» التي لا تصنع قواعد جديدة، بل تفكك النظام القائم وتُحوّله إلى ساحة صفقات مؤقتة، يخسر فيها الجميع على المدى الطويل – بما فيهم الولايات المتحدة نفسها. فالمستثمرون الأجانب يترددون في التعامل مع أمريكا، وسلاسل التوريد تتجه شرقاً، وثقة العالم بالدولار بدأت تتآكل تدريجياً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1223