إصلاح القطاع الاقتصادي العام...  ليس (سيرة مملة)
ليلى نصر ليلى نصر

إصلاح القطاع الاقتصادي العام... ليس (سيرة مملة)

أصبحت أخبار لجان ومشاريع إصلاح القطاع العام الاقتصادي واحدة من أكثر الأخبار المحلية السورية رتابة وخواء... وبالمقابل، فإن الأفعال لا تبشّر بالخير. فعملياً (الإصلاحات) التي طالت القطاع الاقتصادي العامّ مؤخراً أتت على شكل تغييرات كبرى: إصلاح عبر المستثمرين بعقود مجحفة ومزايا كبيرة وحصيلة قليلة، كما في الفوسفات والإسمنت والمرفأ... 

إن القطاع العام الاقتصادي، هو كثافة دور الدولة القوي والذكي والمرن المطلوب في المرحلة القادمة، والذي يجب أن يقوم على أساس تجاوز تشوهات الماضي، والأهم على ضرورات المستقبل.

البعض يربط تشوه النموذج الاقتصادي للملكية العامة في سورية، بالملكية العامة ذاتها... في تكرار أصبح ممجوجاً لمقولة أن الملكية الخاصة تدفع نحو الكفاءة، أمّا الملكية العامة فتؤدي حكماً إلى التخلف والهدر! بينما عالم اليوم يقول إن التجارب الرائدة والقادرة على تجاوز الأزمات المالية العالمية وتحقيق أهداف اقتصادية وتنموية كبرى وسريعة ارتبطت بوجود شركات عامة كبرى تمسك اقتصاد البلاد وتدير مفاصله كما في التجربة الصينية.
لم تكن الملكية العامة لمعامل الدولة وكهربائها واتصالاتها وخدماتها ومؤسساتها الاقتصادية هي المشكلة في يوم من الأيام، بل الدور الوظيفي الذي كانت تضعه لها قوى النهب والفساد السورية التي تتحكم بمزايا هذه الملكية. فعملياً الموقع الأساس لشركات الدولة في السوق، وفي المال العام كان يستخدم وفق إدارة منظمة لاقتطاع حصص من هذا المال، إما عبر نهب المخصصات مباشرة، أو عبر حصر الوكالات والأعمال والتعهدات بواجهات وشركات كبار المتنفِّذين، وعبر التحكم بالتسعير والعقود وتضخيم الأرقام... في هدر لم يكن يذهب هباءً بل كان يتراكم بشكل منظم ثروات لشريحة محدودة جداً من قوى متنفذة كبرى، تحول جزء هام من ربح هذه الجهات الاقتصادية العامة إلى حسابات في الخارج أو عقارات وأملاك و(بزنس) داخل البلاد.
لم تكن الملكية العامة هي المشكلة، بل الاستثمار الخاص المنظم لقوى الفساد لهذه الملكية، واستثمارها بطريقة وحشية أدت إلى تآكل الفعالية الاقتصادية لهذه الشركات.
طرح إصلاح القطاع الاقتصادي العام اليوم يأتي من هؤلاء أنفسهم، فهم عملياً يريدون الانتقال إلى تحويل هذا القطاع إلى مجال عمل مباشر في السوق التي أصبحوا يمتلكون اليد الطولى فيها، وهي عملياً شرعنة لذلك الربح المسلوب، وتحويله إلى نسب مرتفعة للمستثمرين.
أما الإصلاح الفعلي للقطاع الاقتصادي العام فيجب أن ينطلق من الضرورات، إذ إن الملكية العامة لها وظيفة ضرورية اليوم، وهي تتيح جانبين هامين، أولاً دور اقتصادي- اجتماعي منظم للاستثمار. وثانياً تجاوز منطق السعي نحو الربح الأقصى الذي تعمل به السوق أو الملكية الخاصة.
ستحتاج البلاد إلى مؤسسات وشركات كبرى تقوم بالمهمات الاقتصادية والاجتماعية طويلة الأمد وقليلة الربح، وهي مجالات لن تتنطّح قوى السوق لها. فإقلاع الاقتصاد السوري سيحتاج إلى تخفيض عتبة التكاليف الأساسية وتطوير بنيتها وذلك في المجالات التالية قبل كل شيء: الطاقة- النقل- قاعدة المعدات والتكنولوجيا اللازمة لخارطة الاستثمار الصناعي السوري- تأهيل الكوادر البشرية تعليماً وصحة ومهارات بكافة مستوياتها- أساسيات قطاع الإنشاء- أساسيات الإنتاج الغذائي والزراعي...
دون الاستثمار الجدي والمخطط في هذه المجالات على الأقل لن تستطيع البلاد أن تحقق معدلات كفاءةً ودخلاً أعلى، حتى بأكثر أشكال الاستثمار الخاص حذاقة ومهارة... وهذه المجالات تُقاد- عبر العالم اليوم- وفق مشاريع وتوافقات واستثمارات الدولة شريك أساس فيها، كما في كامل بنية مشروع الحزام والطريق الصيني.
الغاية والوظيفة للدور الاقتصادي لجهاز الدولة هي الأهم، والملكية العامة هي واحدة من الضمانات لاستقلال القرار عن قوى السوق الكبرى، وهذا لم يحصل في سورية يوماً، رغم أن شركات الدولة كانت تحت مسمى ملكية عامة، لأن قرار استثمارها وأموالها كانت تحت سطوة الفساد. ما ينبغي تغييره هو نموذج الفساد السوري الكبير، وليست طبيعة الملكية، وما ينبغي إدخاله هو الوزن السياسي للمصلحة العامة في إدارة النموذج الاقتصادي عبر قدرة الناس على المشاركة الديمقراطية في القرار الاقتصادي، وقدرتهم على محاسبة من نهبوا هذه الملكيات العامة خلال عقود مضت، ومحاسبة من يخطّطون لاستمرار نهبها. عندما تتوسع المشاركة الديمقراطية الاقتصادية في القرار والمراقبة... تزداد الفعالية، ويصبح حتى الاستعانة بشركاء مال ومساهمين مسألة قابلة للضبط، وخاضعة للمصلحة العامة وتحقق تقدم البلاد، وبالتالي فوائد لجميع الراغبين بالعمل الجدي لتطويرها لا لنهبها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
937