حصانة البنك الدولي تحمي انتهاكاته
علاء أبو فرّاج علاء أبو فرّاج

حصانة البنك الدولي تحمي انتهاكاته

لعقود، خلّف البنك الدولي وراءه بؤساً إنسانياً. إذ جرى تدميرٌ للبيئة وانتهاكات كبرى لحقوق الإنسان، وجرى تجاهل حالات نزوح كبرى بهدف «التنمية» بينما كان البنك يعمق التفاوت الطبقي الذي رسخته الليبرالية الجديدة، وفي كل مرة كان ذو حصانةٍ أمام القضاء وأعلن نفسه رسمياً فوق القانون.

 

قامت شركة «Dinant» التي تعمل في مجال مزارع زيت النخيل في جمهورية هندوراس في أمريكا الوسطى، والتي تتلقى تمويلاً من البنك الدولي، بشن حملات عنف وترهيب ضد المزارعين لانتزاع ملكياتهم، وتم هذا للشركة عن طريق التحايل على القانون والتهديد، أو باستخدام العنف ضدهم. وبذل المزارعون جهوداً كبيرة للدفاع عن حقوقهم فخاضت التعاونيات الزراعية هناك نضالاً سياسياً، ونُظمت احتجاجات سلمية، بالإضافة إلى رفع دعاوى قضائية، وقوبلت هذه المحاولات كلها بالعنف والعجرفة من الشركة. 

رفعت إحدى «المنظمات غير الحكومية» دعوة أخرى ضد البنك الدولي على أساس أن البنك قام مراراً وتكراراً بتمويل شركة «Dinant» على الرغم من علمه بهذه الانتهاكات كلها. وأحيلت هذه القضية إلى المحكمة الفدرالية الأمريكية في واشنطن ولكنها فشلت، بعد أن قررت المحكمة أنه لا يمكن مقاضاة البنك الدولي لأنه يتمتع بالحصانة حسب «قانون حصانات المنظمات الدولية».

«جواز سفر» لدخول البنك الدولي

لا تحتاج في الواقع إلى جواز سفر لدخول مكاتب البنك الدولي، وهذا يعني أنه جزء من الدولة الموجود فيها وتسري عليه قوانينها، إلا أن قانون حصانات المنظمات الدولية الذي يشمل البنك الدولي ينص على كون «المنظمات الدولية وأملاكها وأصولها - أينما وجدت وأياً كان من يحوزها - يجب أن تتمتع بالحصانة، في أية قضية وأي شكل من أشكال العمليات القضائية، كما هي حال الحكومات الأجنبية»، معنى هذا أن مؤسسةً كالبنك الدولي لديها حصانة تعادل حصانة دولة أجنبية ذات سيادة، ولا تسري عليها قوانين البلد الموجودة فيه مثل الحصانة الدبلوماسية. 

وحصانة كهذه يمكنها إعاقة أي تحرك في أية محكمة ضد البنك الدولي أو أشباهه. ومن المضحك أن تطبيق «قانون حصانات المنظمات الدولية» يجري بشكلٍ انتقائي، فمثلاً الدعوات القضائية المرفوعة ضد كوبا لا يسمح بها فحسب، بل وتُربح قضايا كهذه بشكل مستمر! وقد خسرت الحكومة الكوبية 91 مليون دولار من أصولها المجمدة في الولايات المتحدة بعد أن رفع أحفاد لعناصر سابقين في وكالة الاستخبارات الأمريكية «CIA»، كانوا قد قضوا أثناء غزو خليج الخنازير. وقضية أخرى ربحت 27 مليون دولار لمصلحة امرأة كانت متزوجة من رجل كوبي، بعد أن رأت المحكمة أن زواجها منه جعلها «ضحية للإرهاب»!

انتهاكات بالجملة يغض عنها البصر

في تقرير أعده الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين «ICIJ» نشر في عام 2015، وعمل على أنجازه أكثر من 50 صحفي من 21 دولة، تضمن نتائجاً مهمةً، فقد توصل التقرير إلى أن 3.4 مليون إنسان جرى ترحيلهم أو إزاحتهم بالمعنى الاقتصادي بسبب مشاريع مولها البنك الدولي، فانتزعت أراضيهم وأجبروا على ترك منازلهم وتضررت سبل عيشهم. 

ويضيف التقرير: أنه في الفترة بين 2009 إلى 2013 ضخ البنك الدولي أكثر من 50 مليار دولار دعماً لمشاريع تصنف الأخطر – أي تحمل أضراراً بيئية واجتماعية كبرى لم يسبق لها مثيل، ولا يمكن تعويض خسائرها، وكان لها أكثر من ضعفي الآثار السلبية الحاصلة في فترة السنوات الخمس السابقة لها -  وأشار التقرير في أجزاء منه إلى أن البنك الدولي فشل بشكل دوري في الالتزام بسياسته التي وضعها بنفسه، والتي تدعي حماية الناس من الأذى الناتج عن المشاريع التي يمولها، بالإضافة إلى أنه موّل، جنباً إلى جنب مع مؤسساته المالية الدولية التي تعد ذراعه الممول، حكومات وشركات متهمة بانتهاكات حقوق الإنسان والاغتصاب والقتل والتعذيب... إلخ، وفي بعض الحالات استمروا بدعم الدائنين حتى بعد ظهور دلائل على هذه الانتهاكات!

ويقول التقرير أيضاً: إن البنك الدولي تجاهل بشكل روتيني قواعده التي تتطلب وجود تقارير مفصلة عن خطط إعادة التوطين، ويذكر أيضاً أن الموظفين يواجهون ضغطاً كبيراً من داخل البنك للموافقة على مشاريع البنية التحتية، إذ يهمل البنك مراجعة المشاريع بالشكل الأمثل قبل تنفيذها لضمان حماية المجتمعات المحلية، وفي أكثر الأحيان لا يعلم البنك ماذا حل بالسكان بعد ترحيلهم. وفي كثير من الحالات استمر البنك بالقيام بأعمال مع الحكومات التي انتهكت حقوق مواطنيها، وهم بذلك يعطون إشارة بأن ليس هناك ما يقلق المقترضين إن أخلوا بشروط البنك، حسب ما أفاد موظفون سابقون وحاليون في البنك فقد نسب التقرير لنافين راي وهو مسؤول سابق أشرف قسم حماية الشعوب الأصلية في البنك الدولي بين  عامي 2000 و 2012 قوله: «غالباً لم يكن هناك نية لدى الحكومات للالتزام – ولم يكن هنالك نية من جزء من إدارة البنك لفرض ذلك... هكذا كانت تجري اللعبة».  

ويضيف التقرير: أن موظفين سابقين وحاليين في البنك أكدوا أنه غالباً ما كان يجري تقويض لمحاولات فرض معايير البنك من قبل ضغوط داخلية، رغبة في كسب الموافقات على مشاريع ضخمة، وأفاد العديد من المدراء المطلعين في البنك: أن تقييم نجاحهم يجري من خلال عدد الصفقات التي يعقدونها. وغالباً ما يدفعهم هذا للوقوف ضد الشروط التي من شأنها أن تعقد الصفقة أو تضيف تكاليف إليها.

قروض لتزيد الدين!

تفرض المؤسسات الدولية للإقراض كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي سياسات التقشف بشكل مستمر على الدول المستدينة، فقروض صندوق النقد الدولي مخصصة للحكومات التي تحتاجها إما لسداد ديونها أو لضمان استقرار عملتها، ولكن الشروط التي يتوجب على هذه الحكومات أن تلتزم بها هي: خصخصة القطاع العام »والذي يمكن أن يباع بسعر أخفض بكثير من قيمته للشركات العابرة للقارات التي تكون أصلاً جاهزة للانقضاض عليه«وتخفيضات في شبكات الضمان الاجتماعي، وتخفيض النفقات الخدمية الحكومية بشكل كبير، وتغييرٍ لقوانين معينة، وفتح الاقتصاد بشكل موسع لرأس المال العابر للقارات. ودائماً ما حملت هذه الشروط الدمار للزراعة والاقتصاد الوطني، وينتج هذا بدوره المزيد من الديون ويعطي مزيداً من النفوذ لصندوق النقد الدولي والشركات العابرة للقارات، ليشمل أيضاً إمكانية كبيرة لإضعاف قوانين العمل والقوانين البيئية الموجودة في هذه البلدان مما يحمل معه المآسي على الطبقة العاملة، وعلى البيئة. ليقوم بعدها البنك الدولي بتمويل مشاريع ضخمة للبنية التحتية التي تسعى لزيادة هائلة بأرباح المستثمرين الأجانب، بغض النظر عن مصلحة البلدان واحتياجاتها. 

«المنظمات الدولية المنزهة من الإيديولوجيا»

يجري الترويج دائماً إلى أن منظمات كالبنك الدولي وأمثاله عبارة عن منظمات تعمل وفقاً لقواعد علمية ولا يقبل البعض الاتهامات التي توجه لهذه المنظمات بأنها مسيسة، وتعمل وفق أيديولوجيا محددة تخدم بلداناً بعينها، ومن المعروف أن البنك الدولي يوظف العديد من العلماء والفنيين بشكل مشروط، ويعطيهم القليل من السلطة، وتعد قدرة البنك على البحث وإنتاج المعرفة قدرة كبيرة جداً لكن منظمة البيئة والعدالة الاجتماعية الأوروبية (ASEED) قد أفادت بأن البنك الدولي وعلى الرغم من كونه يحظى بأكبر ميزانية للبحث في العالم و «لا منافس له في مجال اقتصادات التنمية» إلا أن العديد من الباحثين والعلماء يشككون بموثوقية الأبحاث التي ينجزها البنك. وأشار واحدٌ من كبار العلماء في اقتصادات شرق آسيا وهو أليس أمسديم إلى أن البنك الدولي فشل مراراً بإثبات استنتاجاته بشكل علمي وعليه فإن كل الاستنتاجات التي يصل لها ما هي إلا استنتاجات مسيسة وتخضع لمرجعية إيديولوجية ويقول نيكولاس ستيرن وهو بروفيسور في جامعة أوكسفورد في الاقتصاد، ورئيس سابق للبنك الدولي بأن العديد من الأرقام التي يستعملها البنك الدولي تأتي من مصادر مشكوك فيها بشكل كبير أو أنه جرى ترتيبها بشكل ما وهذا ما يجعلها موضع شك. 

أيديولوجيا البنك الدولي!

الأيديولوجيا التي يتبعها البنك الدولي هي الرأسمالية، والتي تعتبر أن للسوق قدرات خارقة تمكنها من إدارة نفسها بنفسها، دون ضرورة لأي تدخل من البشر! ولكن السوق في الواقع شيء آخر، فما هي إلا تجمع لمصالح كبار الممولين والصناعيين، وما إن علمنا هذا حتى يصبح من الطبيعي أن «تقرر السوق» ضرورة فرض سياسات النيوليبرالية بقسوة، من تقشف وخصخصة وسلب حقوق الملايين من العمال. وبالتالي فإن القرارات التي يتخذها البنك الدولي والمؤسسات الشبيهة تصب في نهاية المطاف في مصلحة المتربعين على رأس المؤسسات والشركات التجارية الكبرى، وهذا كفيل بتبديد الأوهام حول أن السوق آلية مرفعة عن الخطيئة تجلس بين الغيوم، وليس هناك قوى خارقة للطبيعة تتحكم بها! بل هي صنيعة البشر، وكل ما تم خلقه من قبل البشر يمكن أن يلغى بأيدي البشر ونظام عالمنا الحالي ليس استثناءً.

 

عن مقال منشور بمجلة CounterPunch بقلم بيت دولاك بعنوان (World Bank declares itself above the law) بتصرف

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
803