نقاش الدعم: حسابات الحقل لا تطابق حصاد البيدر...
تداولت صحف محلية مشروعاً مقدماً من هيئة تخطيط الدولة للجهات الحكومية، وهو عبارة عن مقترح لآلية رفع الدعم، ليتوضح أن نقاش رفع الدعم يدور في الدوائر الرسمية، بعيداً عن كل الاعتبارات المتعلقة بالأزمة وببقاء ما تبقى من الدعم كشكل أخير لضمانات جهاز الدولة السوري للسوريين، ونناقش المقترح المطروح من حيث إمكانية تحقيق الوفر وإيصال التعويض وبعض النقاط التي نص عليها المشروع..
تستمر «الأزمة» في استباحة المحظورات الاقتصادية، وتجاوز «الخطوط الحمراء»، تحت «يافطة» عجز الموازنة العامة، وضرورات البحث عن الموارد، وهذا ما كرسته الدراسة التي أعدتها هيئة التخطيط والتعاون الدولي لتحرير أسعار المشتقات النفطية، والكهرباء، والاتصالات، إضافة إلى تعديل أسعار المواد التموينية من السكر والرز، والقصة لا تتعدى كونها «دراسة مارقة»، بل إن بعض المواقع الالكترونية تناقلت خبر توجيه وزارة النفط والثروة المعدنية كتاباً إلى وزارة الاقتصاد والتجارة الداخلية تطلب فيه إعادة النظر بأسعار المشتقات النفطية، مشددة على ضرورة إعادة تسعير هذه المواد بما يتناسب مع التكلفة وأسعار المبيع العالمي، إذاً نحن أمام نية حكومية جدية على هذا الصعيد، لأن من رفع أسعار المشتقات في الأشهر السابقة رغم كل ما تركه من أثار سلبية على معيشة السوريين لن يتراجع عن تنفيذ هذا السيناريو حالياً..
عود على بدء
أشارت دراسة هيئة التخطيط والتعاون الدولي إلى تحرير أسعار المشتقات النفطية (المازوت، الغاز المنزلي، البنزين، الفيول) والكهرباء، والاتصالات، إضافة إلى تعديل أسعار المواد التموينية من السكر والرز، حيث سيكون السعر المقترح لمادة الغاز المنزلي 1200 ل.س للأسطوانة، و75 ل.س لليترالمازوت، و100 ل.س لليتر البنزين، و60 ألف ل.س لطن الفيول، و16 لكل ك.و.س من الكهرباء، بالإضافة إلى رفع سعر السكر التمويني بما يتراوح بين 25 أو 50 كغ، ورفع سعر الأرز التمويني بين 25 أو 50 كغ، على أن يحقق التعديل المقترح في الأسعار وفراً بمقدار 924 مليار ل.س..
أما التعويضات، فإنها ستوزع على القطاع العائلي والزراعة فقط، حيث ستمنح الشريحة الأقل إنفاقاً في سورية (10 % من الأسر فقط) مبلغاً مالياً يتراوح 76 ألف ل.س أو 78.5 ألف ل.س، وذلك فقاً لمقترحي سعر السكر والأرز، بينما ستقدم الدولة دعماً مباشراً لنحو 50% من قيمة الإنتاج الزراعي، وبالتالي فإن حجم الدعم يوازي وفق هذا المفهوم ما يعادل نصف الأثر على مجمل إنتاج هذا القطاع، أي إن التعويض سيبلغ 90 مليار ل.س، وبناءً على ما تقدم، سيتجاوز حجم الوفر الناجم عن هذه العملية الـ 914 مليار ل.س، على أن يتم توزيع نحو 425 ملياراً وفق هذا المقترح، ويبقى 490 مليار ل.س كوفر سنوي بعد تقديم التعويض..
ومن المقترحات إمكانية زيادة رواتب العاملين المدنيين والعسكريين والمتقاعدين بشكل مجز بما يتناسب مع الفائض المحقق من معالجة الدعم لبعض السلع والخدمات والمنتجات، إلا أن هذا المقترح لن يكون بالمجدي اقتصادياً، لما ستتبع تلك الزيادة من ارتفاع في الأسعار، ستأكل الزيادة في أحسن الأحوال، خاصة وأن تجربة الحكومات المتعاقبة عودتنا على ذلك..
حسابات الحقل وحصاد البيدر
لن تتطابق حسابات الحقل مع حصاد البيدر، فهذا البذخ و«البحترة» التي تتضمنها الدراسة كتعويضات للسوريين ستكون على الورق فقط، فالحكومة ستجد لهذا الوفر المفترض قنوات ومخارج في أوقات التنفيذ، والتحرير سيكون في حينها أمراً واقعاً، إلا أن التعويض سيصبح قاب قوسين أو أدنى من الإلغاء، فما ستتحدث به الأوساط الحكومية في حينها، هو ارتفاع أسعار صرف الدولار، وارتفاع أسعار المشتقات النفطية وأسعار الغذاء عالمياً، لتتآكل تلك الزيادة، دون أن تحصل تلك الشرائح المعنية من التعويض إلا «من الجمل أذنه»..
التعويض.. متآكل وغير مجد
الحجم الأكبر من التعويض المطروح ضمن المقترح سيوجه إلى الشريحة الأقل إنفاقاً من السوريين (10%)، وهو المعبر عن التعويض العائلي للمتضررين، ولكن هل ستغطي الـ 76 ألف ل.س حجم الارتفاع الحاصل في الأسعار لهذه الشريحة وحدها؟! وهل ستغطي نفقاتها؟!
بحسبة بسيطة، نجد أن الأسرة تحتاج إلى 12 أسطوانة غاز سنوياً بالحد الأدنى (كل شهر أسطوانة)، أي أن معدل الزيادة في كل أسطوانة واحدة من الغاز مقارنة بالسعر الحالي يبلغ نحو 800 ل.س، وبذلك تبلغ التكلفة الإجمالية الإضافية على استهلاك الغاز الإجمالي للأسرة 9600 ل.س، وإذا ما أسقطنا الأسعار المقترحة على مادة المازوت، نجد أن التكلفة الإجمالية الإضافية على كل 1000 ليتر، وهو متوسط استهلاك الأسرة الواحدة، سيصل إلى 40 ألف ليرة، على اعتبار أن كل ليتر سيرتفع بمقدار 40 ل.س، أما فاتورة الكهرباء، فإنها سترتفع بمقدار 6 أضعاف، إن لم نقل عشرة أضعاف، على اعتبار أن هذه الشريحة صاحبة الاستهلاك الأقل، وإذا ما افترضنا أن الفاتورة الكهربائية عن كل شهرين بحدود الـ 200 ل.س، فهذا يعني أن الأسرة ستدفع مبلغاً إضافياً سنوياً يصل إلى 3600 ل.س، وهذه البنود الثلاثة وحدها كانت كافية لابتلاع 53.2 ألف ليرة سورية، وهي التي تتجاوز نسبتها 70% من التعويض المقترح، وهنا لم نتحدث عن تأثر الأسعار المقترحة على تكلفة النقل، وعلى أسعار المواد الغذائية، وعلى المواد والمنتجات الصناعية والخدمية، وعلى مجمل متطلبات المعيشة في سورية، أي أن هذه الشريحة التي سيجري التعويض عليها ستتأثر بكل تأكيد بارتفاع الأسعار، إذا ما جرى تنفيذ هذا المقترح، ولكن هل ستكون هذه هي الشريحة الوحيدة المتأثرة على هذا الصعيد؟!
توسيع دائرة الشرائح المستحقة
الفقر في سورية لا يختزل بنسبة الـ 10% التي أظهرتها الدراسة، لأن الشرائح الخمس الأفقر في سورية (50% من الأسر)، تنفق 40 مليار ليرة سورية شهرياً، ونحو 480 مليار ليرة سنوياً، حسب أرقام المكتب المركزي للإحصاء خلال العام 2009، أي أن متوسط الإنفاق الشهري لهذه الأسر بمجمله يبلغ 17.77 التعويض.. متآكل وغير مجد
ألف ليرة شهرياً، بينما يبلغ متوسط إنفاق الأسر الأفقر في سورية 11.2 ألف ل.س شهرياً، أي أن الفارق في الإنفاق ليس بالكبير، خاصة وأن متوسط الإنفاق المطلوب حسب الدراسة ذاتها يبلغ 30 ألف ل.س، أفلا يعني ذلك أن هذه الأسر والشرائح الخمس الأفقر هي من تحتاج إلى التعويضات أيضاً في حال إقرار الحكومة لهذه الدراسة؟! وإذا لم يقر تشميلها بمستحقات وتعويضات فإن مستويات إنفاقها ستتراجع، وستزيد من معدلات الفقر في سورية..
الشريحة الأفقر (10%) ليست وحدها من تستحق التعويض إذا ما كان ارتفاع الأسعار سيتم بهذه الطريقة، لأنه وانطلاقاً من تجربة الأردن، وصلت نسبة الذين حصلوا على الدعم النقدي إلى 70 %، فلا نطالب بهذه النسبة بل نقول إن الحد الأدنى للتعويضات يجب أن يشمل الشرائح الـ 50% الأفقر والأقل استهلاكاً في سورية..
مخاوف محقة
أما على المستوى الإجرائي، فإن الحكومة سترفع الأسعار كما درجت العادة، ومن بعدها ستفكر في تقديم التعويضات، إن لم نقل أن هناك شهوراً طويلة ستمر دون تقديم التعويض المقترح، وهذا سينعكس سلباً على المستوى المعيشي لـ 85% من السوريين، فإيران، فتحت حسابات للمواطنين، ووضعت المبالغ المالية المستحقة في تلك الحسابات قبل قرار رفع الأسعار، وبقيت هذه المبالغ مجمدة لحين قرار تنفيذ مشروع رفع أسعار المحروقات وتحريرها مقابل تقديم تعويض مالي، وبذلك وفّرت إيران التعويض للمتضررين في حساباتهم قبل الشروع بتنفيذ القرار، أما في الحالة السورية، فما نراه هو قرار حكومي متسرع لن يأخذ بعين الاعتبار تلك الثغرات، ليسرع في إقرار رفع الأسعار، آملاً في الحصول على تمويل للموازنة العامة تاركاً المواطن وحيداً في معركته مع الأسواق والغلاء..