الاقتصاد المعولم وريوع الموقع والنفوذ!
تتحدد السمات الرئيسة للعولمة بجملة من العوامل والمعطيات، وأولها هيمنة مطلقة للاقتصاد المعولم، والسوق العالمية المحررة من كل القيود في المجالات الاجتماعية، والثقافية، والأخلاقية، والاقتصادية إلخ، وبالتالي إخضاع كل شيء لقانون السوق، بما في ذلك العلاقات الاجتماعية الأكثر قدسية كالتعليم والثقافة والخدمات الأخرى.
من المهيمن؟!
يزداد الأمر تعقيداً بهيمنة الرأسمال المالي في الاقتصاد و السياسة، والذي ينجم أخيراً عن هيمنة البرجوازية الريعية على البورجوازية المنتجة، مع انتشار الأنشطة الطفيلية البعيدة عن العمل الإنتاجي، كتوظيف المال في المصارف، والمضاربات في اسعار العملات والأسهم والسندات وغيرها، بالإضافة إلى المضاربات العقارية والسلعية، والوساطة في الصفقات المشبوهة والأنشطة الخطرة،. والتسابق حول ريوع الموقع والنفوذ، يضاف إلى كل ذلك ريوع الملكية، كالريع النفطي، والريع العقاري، ويتقلص بالتالي دور العمل المنتج ومكانته الاجتماعية بشكل عام، ويتحول الاقتصاد العالمي، بل والمجتمع العالمي بأسره، وبصورة متزايدة، إلى نوع من الكازينو، وينتشر بالعلاقة المباشرة مع هيمنة الريوع، وفي هذه الأجواء ينتشر الفساد، وكل أنواع الشطارة والجريمة المنظمة، وأنواع التهريب المختلفة، وتتكاثر الدويلات الحرة «كفراديس» للشركات العالمية، وتمارس فيها كل الموبقات، مع انفلات نوازع متوحشة كروح المغامرة، والخديعة والوصولية، وسحق الآخر دون رحمة.
قانون الغاب
بكلمة موجزة، يسود قانون الغاب في المجتمع، ويزداد التناقض الطبقي حدة في المجال الاقتصادي المعولم، ويبقى المجال السياسي متقوقعاً وراء الحدود القومية التقليدية، وينجم عن ذلك أيضاً، تقلص دور الدولة وخصوصاً في البلدان النامية، وهي بالأصل دول رخوة تجاه الدول الصناعية القوية، وخصوصاً تجاه المؤسسات العالمية والشركات متعددة الجنسية، ويجري تصنيف الأثرياء حسب ما يمتلكون من مليارات الدولارات، وتصنيف الدول بحسب ما تحققه من معدل نمو، وحجم في إنتاجها الوطني، وتصنيف الشركات حسب أرقام أعمالها وحجم أرباحها.
سمات الأزمة العالمية
ما هي سمات الأزمة العالمية؟! وكيف نفهم أسبابها وتداعياتها؟! فالركود والكساد يعني قبل كل شيء عدم القدرة على تصريف السلع، وذلك نتيجة لقصور القدرة الشرائية لدى المستهلكين، وبالتالي يتعطل جزء من الجهاز الإنتاجي أو الطاقة الإنتاجية عن العمل، وتظهر البطالة بين العاملين، فالركود الذي جرى في السنوات الماضية، كان الهدف منه ابتزاز المجتمعات لتقبل الإجراءات التي تمس الحياة اليومية، كإلغاء الدعم عن المواد الغذائية، وعدم الحصول على المسكن اللائق، وتدني مستوى الخدمات العامة، وزيادة الرسوم وفرض الضرائب والتلاعب بأموال الدولة.
أزمة أخلاق
صراع ضارٍ بين كبار مالكي رؤوس الأموال في الشركات الكبرى والبورصات، والمطلب هو، سد الفجوة باستمرار ما بين القيمة الحقيقية للأصول التي في حوزتهم وقيمتها الكاذبة، أو الوهمية التي تولدت عبر سنوات، فالأزمة ليست أزمة ركود وفساد، وإنما هي أزمة اجتماعية اقتصادية وأخلاقية عامة.
ساعدت الأسواق المالية في البلدان النامية والخليجية بشكل عام على توسيع فئة الريعين في هذه المجتمعات، فالمساهمون هم الرأسماليون الذين ينالون دخلاً دون أن يمارسوا إنتاجاً، وتظهر طفيلية الرأسماليين بوضوح في شكل الشركات المساهمة، فالمساهمون مجرد ملاكين في حين تدار المؤسسة عموماً من جهاز مأجور.
مضاربات
أدت المضاربات في أسواق الأسهم بمختلف أنواعها، وسياسات الإنفاق لدى حكومات الخليج عبر أكثر من 30 عاماً، إلى خلق رأسمال صوري لا تقابل أصول عينية، وقد أدى ذلك إلى نتيجتين: أولاً: التضخم النقدي وبالتالي ارتفاع الأسعار الذي يتخذ وسيلة لامتصاص القيمة الحقيقية للمدخرات البسيطة لدى عامة الناس وزيادة تكاليف المعيشة، وتقول التقارير إن 180 ألف عميل في السعودية توقفوا قبل أعوام عن سداد القروض، وقد تم ضخ هذه القروض في سوق الأوراق المالية.
ركود وتدخل
مع الأزمة المالية تعالت الأصوات رافضة الركود الاقتصادي، ومطالبة بضرورة تدخل الحكومات، واتخاذ الإجراءات اللازمة لانعاش الأوضاع الاقتصادية، وهذا ما دفع الحكومات لزيادة الانفاق، وضخ المزيد من المال، وشراء نسب من الشركات المضاربة، وهكذا تتماشى سياسة الحكومات مع مصالح الفئات الطفيلية من الرأسماليين.
طبعاً من غير المتوقع أن تضع هذه الحكومات خططاً للتنمية الاقتصادية، وذلك لأن الثروة والسلطة إذا تركزت في يد فئة محددة لا يمكن الحديث عن التنمية الاقتصادية، فآلية الارتباط بالرأسمالية العالمية، هي التي تعمل على تطويق التطور في الأطراف التابعة لها، وهي التي تقود إلى ربط رأس المال هذه الدولة بدورة رأس المال العالمي ومؤسساته وشركاته المتعددة الجنسيات، والتي تحدد أشكال توظيفه، وأين يوظف!.
أين الفوائض النفطية؟
تبعثرت الفوائض النفطية عبر 40 عاماً الماضية، وذلك من خلال تمركز الثروة في أيدي فئات محدودة، وفي بنوك الدول الصناعية الكبرى، لذلك بادرت دول الخليج إلى إنقاذ شركات ومؤسسات دولية عديدة، ومن هنا فإن ما يتبناه رأس المال الاقطاعي ليس مصالح دول الخليج وشعوبها، وإنما كيفية حل مشاكل رأس المال العالمي الذي تنتابه أزمات حادة ضمن أزمات النظام الرأسمالي العالمي، وسبق في العام 1981 حيث اشترت الحكومة الكويتية شركة «سانتافي» الأمريكية بجميع أجهزتها وممتلكاتها مع الإبقاء على كادرها الإداري وطاقمها الفني..
مكافأة
يقول الكاتب الكويتي محمد سليمان غانم في هذا الصدد في كتاب له صدر عام 1986 «مما هو جدير بالذكر ويدعو للسخرية هو أن المستر جيرالد فورد رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابق قد أصبح أبرز أعضاء مجلس إدارة الشركة الأمر الذي يوحي لنا بأن ذلك قد يبدو مكافأة له لعدائه الصريح والواضح لمصالح الشعوب العربية والدول النامية وصداقته الحميدة لإسرائيل وصلاته الوثيقة برأس المال الصهيوني»...
المهم في الأمر، هو الصفقة التي بلغت قيمتها 2500 مليون دولار، والتكلفة بالضبط 3000 مليون دولار مقابل 51 دولار للسهم الواحد بينما سعر السهم في البورصة 24 دولاراً، والقيمة الدفترية للسهم 11 دولاراً اي قيمة الشراء تعادل أكثر من ضعفي القيمة السوقية، واعتمدت الصفقة على دراسة قدمتها مكاتب استشارية أميركية، وفي هذا الصدد قال جاسم السعدون في جريدة القبس 4 يونيو 1985، «إن الحكومة فرطت بمليار ونصف المليار من الدولارات لصالح حملة أسهم شركة سانتافي من كبار الرأسماليين في الوقت الذي تبخل فيه على المواطنين استمرا الدعم لبعض المواد الغذائية تحت سياسة ترشيد الإنفاق».
إفلاس
وضعت الأزمة المالية الاقتصادية دول الخليج العربية بمواجهة الإفلاس الاقتصادي أيضاً، وذلك مع صفقات الأسلحة التي تورد بالمليارات إلى هذه الدول، وقد كانت عوائد الاستثمارات الخارجية تلعب دوراً موازياً لقطاع النفط، ولكن تلك العوائد قد تآكلت، وترافق كل ذلك، مع إهمال القطاعات الإنتاجية، بالتوازي مع ترحيل الأموال إلى البلدان الصناعية، والمحصلة جرى استنزاف الاقتصاديات المحلية..