زمن الانسحابات وزمن التقوقع الأمريكي
تقوم الولايات المتحدة الأمريكية منذ ثلاث سنوات بجموعة من الإجراءات السياسية المتعلقة باتفاقاتها الدولية والتزامتها مع حلفائها من جهة وأعدائها من الجهة الأخرى، فانسحبت أمريكا إلى الآن من عدة اتفاقيات دولية، مثل: الاتفاق النووي الإيراني، ومن اليونسكو، ومن اتفاقية الصواريخ الاستراتيجية المتوسطة مع روسيا، وتعلن اليوم انسحابها من اتفاقية السماء المفتوحة.
السؤال المطورح: لماذا تنسحب أمريكا من اتفاقات دولية حصلت عليها في عز قوتها وفي عز انهيار خصومها؟
اتفاقية السماء المفتوحة والحدود المستباحة!
في العام 1992 وقعت مجموعة دول الناتو مع دول حلف وارسو السابق ودول أخرى، وتسمح اتفاقية السماء المفتوحة، للدول المشاركة بجولات استطلاعية من خلال طائرات استطلاع، وتسمح بتوزيع الصور الملتقطة بين جميع الدول الموقعين على هذه الاتفاقية. وعلى الرغم من أن ميدان التجسس شهد تطوراً تقنياً كبيراً كان عماده دخول الأقمار الصناعية في هذا الميدان، ظلت هذه الاتفاقية تشكل نوعاً من أنواع الضوابط وتحمل نوعاً من أنواع التطمينات وحسن النوايا للدول الموقعة على عليها، إلا أنها وبلا شك كانت أحد أشكال تثبيت لتوازن دولي جديد، عنوانه انهيار الاتحاد السوفييتي وحصار روسيا ومنعها من التقدم، فكانت التنازلات التي قدمها الاتحاد السوفييتي قبيل انهياره، وتلك التي قدمتها روسيا بعد الانهيار مصحوبة بتنازلات ذات قيمة أقل من الخصوم بما يضمن هيمنة دائماً في أغلب الميادين الحيوية.
على الرغم من أن اتفاقية السماء المفتوحة ضمنت لروسيا حقها بالتحليق فوق أراضي الدول الموقعة إلا أن هذه المعلومات لم تشكل مصدر خطر حقيقي، فروسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي كانت خزاناً للثروات والمواد الخام مع غياب أي مشروع على المستوى الوطني، وهو ما يعني نسبة تهديد منخفضة جداً، حتى وإن امتلكت روسيا معلومات استخباراتية في تلك المرحلة.
كل هذا لا يعني أن الانسحاب الأمريكي من هذه الاتفاقية اليوم لا قيمة له، بل هو خطوة مهمة قد تحمل في طياتها الكثير، ويجب فهم الدوافع الأمريكية لهذا الانسحاب اليوم، فهو معبر عن نزعة الانكفاء الأمريكية نحو الداخل، وتخفيض نفقاتها العسكرية الخارجية التي لا تراها ضمن أولويتها، وتحاول من هذه الخطوات أيضاً تعقيد علاقات الجميع ببعضهم وتزيد من احتمالات الصدام بين كل المنافسين.
احتمالات ودوافع
كل ما ساقته أمريكا عن ذرائع للانسحاب من الاتفاقية يمكن استخدمه للاستهلاك الإعلامي فلا منع روسيا لبعض الرحلات في نوادر الأوقات ولا ضم الصين للاتفاقية ولا أي شيء آخر، ولا حتى التكلفة العسكرية للطيران بل الأسباب أعمق من ذلك، منها: أن روسيا استطاعت في السنوات القليلة الماضية تحقيق تطور عسكري سريع، مثل: الصواريخ العابرة للقارات فرط الصوتية، وهذا يعني كسرها للتطور العسكري الغربي الذي ساد في العقد الماضي، وهذا يفرض على من يريد احتواء روسيا خطوات متطورة وموائمة للظرف العالمي، وباتت اتفاقية السماء المفتوحة أقل من المطلوب، ومن هذه النقطة يممكنا وضع مجموعة من الاحتمالات للخطوات التي يمكن للولايات المتحدة الأمريكية القيام بها بعد إعلان انسحابها.
ضرب الروس بالأوروبين
هل تعلم أمريكا شيئاً لا نعلمه حول العلاقات الروسية الأوروبية؟ وهل يجري من تحت الطاولة ما لا يظهر إلى العلن؟
العلاقة الروسية- الأوروبية تشهد تطوراً وإن كان لا يزال بطيئاً، إلا أنه مرئي، مثل: مشروع السيل الشمالي ومجموعة النورماندي وغيرها من أشكال التعاون والتنسيق بين دول أوروبا الغربية وروسيا، ويمكن أن يشكل انسحاب الولايات المتحدة من هذه الاتفاقيات احتمالاً لصدام روسي– أوروبي، فهذه الخطوات الأمريكية تستوجب رداً روسياً، وهو ما ترى فيه دول أوروبا أسباباً جديدة للقلق من الجزء الشرقي من القارة، وقد يصعب فصل حدود هذا التهديد بسبب الحضور الأمريكي الكبير في أوروبا، من هنا تكون الولايات المتحدة خفضت أعباءً عن ظهرها، ودفعت روسيا لرد فعل من شأنه إثارة الأوروبيين، وهي أجواء مطلوبة دائماً بالنسبة للأمريكان الذين يمهدون لابتعادهم عن ساحات خارجية، فمن الضروري عند انسحابهم هذا أن يتركوا خلفهم أكبر كمٍّ من المشاكل التي قد تؤخر المنافسين.
لكن ما يجري على أرض الواقع فعلياً: إن الدول في شرق وغرب أوروبا تتجه لمزيد من التسويات والضمانات المتبادلة، والتشابك المتزايد لمصالح هذه البلدان بالمعنى الاقتصادي يحرم الولايات المتحدة من محاولات إشعال الفوضى، أو يقلل آثارها السلبية للحد الأدنى.
اتفاقيات جديدة بشروط جديدة
الانسحاب الأمريكي قد يحمل ضمنياً رغبة بالوصول لاتفاقات جديدة، ونرى هذا بوضوح في الاتفاق النووي الإيراني، فالولايات المتحدة لا ترى المشكلة بحل المشكلة سلمياً كما تدّعي، بل مشكلتها بالطبيعة «المجحفة» للمصالح الأمريكية، فهي تحاول من انسحابها هذا الضغط باتجاه اتفاق جديد بشروط أفضل، ولكن هذا بات شبه مستحيل، فأمريكا التي وقعت على الاتفاق النووي في 2015 أصبحت أضعف وأقل حيلةً بعد خمس سنوات، والتراجع الأمريكي المستمر لن يسمح بتغيير شروط هذه الاتفاقيات لصالحهم بل العكس.
الساحات الأهم
إن المجابهة الامريكية الصينية تفرض على أمريكا في ظل وضعها الراهن تقليل عدد جبهاتها وتخفيض انفاقها العسكري غير المهم، وتنظيم الوضع الداخلي الأمريكي، في سبيل ضمان المعركة المصيرية مع الصين،لكن هذا أحد مفاصل الخلاف والانقسام الأمريكي، فكان لتصريحات مرشح الرئاسة الأمريكية جون بايدين رأياً واضحاً، إذ أعلن أنه يرى أن هذه المعاهدة قد تنهار في غياب الولايات المتحدة عنها مما «سيزيد التوتر بين الغرب وروسيا، وستزداد معه خطورة وقوع الخطأ واشتعال النزاع»، وهو تماماً المطلوب بالنسبة للفريق الآخر، وأضاف بايدين: إن ترامب بهذا القرار «ضاعف رهان سياسته قصيرة الرؤية والمتمثلة بالتقوقع والتخلي عن زعامة أمريكا»، وهو ما يرى الفريق الآخر أنه واقع ينبغي التعايش معه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 967