دروس من الانتخابات الرئاسية التونسية
عماد طحان عماد طحان

دروس من الانتخابات الرئاسية التونسية

تعامل كثيرون مع وصول ترامب إلى سدة الرئاسة الأمريكية عام 2017 بوصفه «حالة شاذة». كذلك الأمر مع وصول بوريس جونسون مؤخراً إلى رئاسة الحكومة البريطانية. والآن نقف مع محطة جديدة من «الحالات الشاذة» هي المحطة التونسية...

إذا كان التشابه في الطروحات السياسية، وحتى في شكل الظهور الشخصي، كبيراً بين ترامب وجونسون، فإنّ من المستهجن ربما، حشر قيس سعيد- الحائز على أعلى نسبة أصوات في الدورة الأولى من الانتخابات التونسية- معهما. والحقيقة أننا لا نحاول هنا مطابقة هذا بذاك، ولكن رغم ذلك فإنّ تشابهاً محدداً بين الحالات الثلاث، بل ومعها حالات أخرى عديدة في أوروبا وحول العالم، هو تشابه لا يمكن القفز فوقه دون استنتاجات؛ فالظاهرة التي تتكرر أكثر من مرة، يختفي تحتها بالضرورة قانون ينبغي اكتشافه...

من خارج المنظومة

كلمة السر المشتركة بين الحالات المذكورة، ورغم الاختلافات الكبرى بين توجهاتها السياسية، هي أنها جميعها من خارج المنظومة التقليدية، من خارج الفضاء السياسي القديم بشكله المعروف؛ وهذا يشمل الفضاء بتياراته المختلفة، اليمينية منها واليسارية، وتدرجات اليمين منها، وكذلك تدرجات اليسار.
وهذا لا يعني إطلاقاً أن ترامب أو جونسون ينتمون إلى «فضاء سياسي جديد»، فهم توليفة محددة قامت النخبة الحاكمة في البلدين بتقديمها كشكل من أشكال الاحتيال على القانون الموضوعي؛ فهذه النخبة تعلم جيداً أنّ الفضاء السياسي القديم بطروحاته وأفكاره وشكله بات مرفوضاً من الناس، ولذا لا بدَّ من الاحتيال على الناس بتقديم شكل جديد يوحي بعملية التغيير.
وهنا أيضاً، لا يجوز استباق الأمور بالقول إن قيس سعيد هو الآخر تعبير عن احتيال من النمط نفسه، مع أنّ احتمالاً كهذا لا يمكن نفيه إلا بالتجربة الملموسة، لكن ما هو أكيد أنّ الرجل من حيث الشكل والخطاب والحملة الانتخابية والبرنامج، لا ينتمي إلى الفضاء القديم.
بكلام آخر، فإنّ ما هو مشترك بين هذه «الحالات»، هو أنّ الشعوب في العالم بأسره، تعيش بالضبط حالة «قرَفٍ عميق» من كامل الفضاء السياسي القديم، وحالة انعدام مطلق للثقة تجاه كل تيارات ذلك الفضاء، وتجاه طريقة خطابه وشكل دعايته السياسية، بل وحتى مظاهر وطقوس شخصياته بما في ذلك خطابها وحتى طريقتها في الحديث.
إنّ الأساس الواضح لهذا «القرف» المشترك، هو دخول العالم بأسره مرحلة جديدة مفتوحة الآفاق، مرحلة أساسها الحركة الشعبية المتصاعدة في كل مكان من العالم، والتي ولدتها- قبل أي شيء آخر- الأزمة الرأسمالية العميقة على المستوى العالمي، بما أنتجته من تفاوت هائل في الثروة ومن فقرٍ مطلق وبطالة وتهميش وصولاً إلى انعدام التنمية والنمو معاً.
كانت الوثائق الأولى للّجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين، التي غدت لاحقاً حزب الإرادة الشعبية، قد ركزت مراراً على مقولة «موت الفضاء السياسي القديم وبداية ولادة فضاء سياسي جديد»، ليس على المستوى السوري فحسب، بل وعلى المستوى العالمي أيضاً، وهذا بالضبط ما نراه بشكل ملموس في أيامنا هذه، وبأكثر الأشكال غرابة، وربما طرافة في بعض المواضع.

دون حملة انتخابية ودون برنامج!

أكثر من ذلك، فإنّ المرشح الحائز على نسبة الأصوات الأعلى في الدور الأول من الانتخابات التونسية (18,4%)، لم يكتف بعدم الإفصاح عن برنامج سياسي متكامل، بل وعبّر وضوحاً أنّه لا يمتلك برنامجاً!
المتابع للمناظرات الرئاسية الإعلامية التي جرت قبل الانتخابات، وكذلك من تابع بشكل خاص تصريحات سعيد ضمن المناظرات وخارجها، لا يمكنه الركون إلى أنّ الرجل لا يمتلك برنامجاً فعلاً؛ فقد عبر عن آراء تتفاوت في درجة عمقها تجاه مختلف الملفات المطروحة، ولكن الأكيد هنا هو أمران، الأول هو أنّ «البرنامج المفترض» والمتضمّن في تصريحات وآراء سعيد، ليس برنامجاً تفصيلياً ولا متكاملاً، والثاني (وربما الأهم)، أنّ التصريح بعدم امتلاك برنامج (وللمفارقة) ربما كان نقطة الجذب الأقوى ضمن حملته الانتخابية؛ وهو ما يعزز الدرس الأول الذي تكلَّمنا عنه سابقاً، فحتى الشكل الكلاسيكي للحملات الانتخابية القائم على برنامج يتضمن مجموعة بنود محددة، بات ينتمي من وجهة نظر أقسام عريضة من الناس إلى مخازن الأكاذيب والخداع التي يمثلها الفضاء السياسي القديم، ونقول أقسام عريضة من الناس ليس استناداً إلى نسبة أولئك الذين صوتوا لسعيد فقط، بل وأهم من ذلك أولئك الذين لم يشاركوا في عملية الانتخاب من الأساس، وتزيد نسبتهم عن 55% ممن يحق لهم التصويت داخل تونس!
إنّ صوت هذه الأغلبية المطلقة، التي لم تصوِّت، هو صوت موحد ضد كل العملية الانتخابية، وضد كل المرشحين؛ أي إنّه التعبير الأكثر وضوحاً عمّا أشرنا إليه من انعدام كامل للثقة بأي كان من الفضاء القديم، وعدم تبلور الجديد الذي يمكنه أن يحرّك هؤلاء ويستقطبهم.
الميزة الإضافية لسعيد، هي ندرة ظهوره الإعلامي قبل ابتداء السباق الرئاسي، وحتى خلاله! أي إنّ الناس يعبرون هنا أيضاً عن مللهم وسأمهم من الأشكال التقليدية للحملات الانتخابية.

استكمال الثورة

النقطتان الأكثر بروزاً ووضوحاً في «برنامج» سعيد، ابتداء من شعار حملته (وهو: الشعب يريد) هما الجانب الاقتصادي الاجتماعي، والجانب السياسي المتمثل باستكمال الثورة.
في الجانب السياسي، عبّر سعيد بوضوح عما تتفق عليه الأغلبية الساحقة من التونسيين، وهو أنّ الثورة جرت سرقتها، وأنّ تبديل رئيس ورئيسين لم يغير النظام، وإنما غيّر فقط الطرابيش والوجوه، في حين بقيت الأوضاع من حيث جوهرها على الحال نفسه.
هذه الحقيقة، ورغم وضوحها، فإنّ أحزاب وتيارات الفضاء السياسي القديم، لم تعلنها صراحة، بل دخلت خلال السنوات التسع الماضية معمعان العمل التحالفي المتقلب من جهة إلى أخرى، وفي إطار «التكتيك» بحثاً عن تغييرات إصلاحية تدريجية متواضعة لم يتحقق منها شيء يذكر على أرض الواقع؛ حتى الأحزاب المحسوبة على اليسار لم تكن مواقفها جذرية حتى النهاية تجاه السلطات «الجديدة» التي تولت الحكم بعد زين العابدين، بل ودخلت في أخذ وشد حول مواضيع ثانوية، مثال ذلك التأييد الجزئي، وأحياناً التأييد الكامل، لأحزاب محسوبة يسارية، للباجي قائد السبسي من موقع «التقارب العلماني» معه أو من موقع حقوق المرأة، وما شابه ذلك من مسائل، والتي بات الناس يعلمون بتجربتهم العملية، أن هذه المواضيع على أهميتها إن لم تكن مقرونة مع الفعل التغييري الجذري في الجوانب الوطنية والديمقراطية والاقتصادية الاجتماعية خاصة، فإنها ليست أكثر من مكياج تتلطى وراءه البرامج المعادية للناس، وبالدرجة الأولى للنساء والأطفال والفئات الضعيفة في المجتمع.
هو درس قاسٍ للقوى اليسارية، ولكنه ضروري. وهذه القوى تلقت صفعة مدوية خلال هذه الانتخابات، نتيجة لانقسامها قبيل الانتخابات ودخولها في سجال داخلي تنظيمي، لا سياسي أو فكري، فيما بينها، حتى أنّ مجموع الأصوات المحسوبة على مرشحَي الجبهة الشعبية (التحالف اليساري الأكبر)، حِمّة الهمامي ومُنجي الرحوي، لم تتجاوز 3% من مجموع الأصوات، مقارنة مع

8% في الانتخابات الماضية لمرشحها حِمّة الهمامي.

الاقتصادي الاجتماعي

النقطة الثانية البارزة في «برنامج» سعيد، واستكمالاً للأولى، القائلة بأن النظام لم يتغير، ويجب أن تستكمل الثورة لتغييره، هي طروحاته الاقتصادية الاجتماعية التي ركزت على إعادة توزيع الثروة، وتوجهت نحو الشباب بشكل خاص (وصلت نسبة الذين صوتوا لسعيد من الشباب بين 18-25 سنة إلى 37%).
ورغم أن طروحاته الاقتصادية الاجتماعية، على غرار طروحاته في كل الملفات الأخرى، لا يمكن القول عنها إنها طروحات برنامجية واضحة أو جذرية، لكن ما يُوحي (صدقاً أو كذباً) بجذريتها، هو استنادها إلى الهجوم على القديم بأشكاله وتياراته المختلفة. ورغم أنّ ذلك لا يعني بالضرورة أنّ سعيد سيكون تغييراً جذرياً، إن وصل إلى سدة الرئاسة، ولكنه يعني بالتأكيد أن قطع الناس الصلة مع الفضاء القديم (عبر اختيار سعيد أو الامتناع عن التصويت) هو خطوة مهمة باتجاه التغيير الجذري.

خلاصة أولية

من المبكر بعد استخلاص كامل الدروس من الانتخابات الرئاسية التونسية، ولكن يمكن بشكل أولي تلخيصها بالنقاط التالية:
الممتعنون عن التصويت هم الوزن السياسي الأكبر في تونس، وبفارق كبير مع نسبة التصويت لأعلى المرشحين، فإذا أعدنا حساب النسب التي حصل عليها المرشحون من إجمالي من يحق لهم التصويت، وليس ممن صوتوا فعلاً، فإنّ المرشح الحائز على النسبة الأعلى من الأصوات، ستنخفض نسبته من 18,4% إلى 8,3% ممن يحق لهم التصويت. أي إنّ حالة الرفض العام وانعدام الثقة بكامل المنظومة السياسية القائمة هي السمة الأساسية.
بين الذين صوتوا، حاز مرشح بلا برنامج وبلا حملة إعلامية وبلا ماضٍ سياسي، ولا ينتمي لأي حزب، على النسبة الأعلى من الأصوات، وبخاصة من أصوات الشاب من الفئات العمرية الأصغر. ما يعني أنّ الثقة معدومة تقريباً بكل الأحزاب والتجمعات التقليدية، وبالفضاء السياسي القديم على العموم بكل أشكاله، والناس لم يعد لديها أمل بحدوث أي تغيير على يد هذا الفضاء، وباتت تتنسم رياح التغيير، وربما تتوسلها، في أي شكل جديد لا ينتمي للمنظومة، سواء أكان عدم انتمائه لها حقيقة أم وهماً.
البرنامج السياسي الذي تطلبه الناس في هذه المرحلة، وفي إطار تحولها التدريجي باتجاه درجات أعلى فأعلى من النضج السياسي، هو برنامج يركز على نسف القديم، ويضع الحقائق حوله على الطاولة، وعلى رأسها الحقيقة القائلة أن كل ما جرى حتى اللحظة لم يغير الأنظمة، بل غير أقنعتها ومظهرها الخارجي فحسب.
المعيار الاقتصادي الاجتماعي، معيار إعادة توزيع الثروة، مسألة حاسمة في كيفية تعاطي الناس مع القوى والشخصيات السياسية المختلفة، القديم منها والجديد، ولكنه يصبح بلا قيمة حين تنطق به قوى سياسية لدى الناس شكوك حول اشتراكها بألعاب السلطة والنظام، وشكوك في درجة جذريتها وصدقها في السعي نحو التغيير.
الصفعة الموجعة التي تلقتها قوى اليسار التونسي، تُعيد الاعتبار إلى ضرورة وضوح البرنامج الاقتصادي الاجتماعي وجذريته بالدرجة الأولى، وتُوضح حجم الأضرار الكبرى التي يمكن أن تلحق بهذه القوى جرّاء انسياقها إلى تمييع القضية الاقتصادية الاجتماعية الأساسية المتعلقة بالشغيلة، وبإعادة توزيع الثروة، وتمييع الطرح الجذري تجاه السلطات القائمة، لمصلحة تحالفات على أسس شكلية على غرار العلمانية والنسوية وحقوق الطفل وذوي الاحتياجات الخاصة وإلخ، والتي تتحول بيد القوى المعادية للتغيير الجذري، بالضبط إلى أدوات في مزيد من قمع المرأة والطفل وذوي الاحتياجات الخاصة وعموم الفئات الضعيفة في المجتمع، في إطار القمع الشامل لأصحاب الأجور والمنهوبين.
إنّ موت الفضاء السياسي القديم وولادة الفضاء السياسي الجديد على المستويات المحلية والإقليمية والدولية هو مصير حتمي ولا فرار منه، ويمكنه أن يمر بأشكال أولية تحضيرية وانتقالية عبر بدائل وهمية وشكلية تقترب منها الناس في المراحل الأولى فقط، لأنها مختلفة بالشكل والمظهر عن الفضاء السياسي القديم، ولكن سرعان ما تدرك الناس وهمية هذا الجديد لتدخل في عملية بحثٍ واعٍ عن الجديد الحقيقي؛ (حسب لينين فإنّ الجديد المزيف هو القديم المنسي)، والجديد الحقيقي لذلك، ووفقاً لأدبيات الإرادة الشعبية مع مطالع هذا القرن، هو دائماً طبعة أولى في التاريخ.
على القوى الثورية الحقيقية أن تمثل الجديد الحقيقي شكلاً ومضموناً، ظاهراً وجوهراً، ببرامجها وخطابها وطرائق عملها، وعليها دائماً وأبداً أن تقبض على جمر القضية الاقتصادية الاجتماعية بوصفها القضية الحاسمة في النضال الاجتماعي نحو التغيير الجذري، وعليها ضمناً ألا تنساق وراء الأشكال «اليساروية» التذريرية التي تقسم القضية الاقتصادية الاجتماعية إلى عدد لا يحصى من القضايا الجزئية، جاعلة من النضال الطبقي ومن الطبقات المنهوبة مجرد فئة بين عشرات الفئات الأخرى «المستضعفة»، على الطريقة التي عمل بها ما يسمى «اليسار الأوروبي»، والذي يبدو أن يسار تونس متأثر به بمقدار لا بأس به!

معلومات إضافية

العدد رقم:
932
آخر تعديل على الأربعاء, 25 أيلول/سبتمبر 2019 13:21