الهروب من الأزمة عبر مضيق كيرتش
في مطلع الأسبوع الماضي، أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن احتجازها لعدة زوارق عسكرية تابعة للبحرية الأوكرانية بعد تجاوزها للمياه الإقليمية الروسية في بحر آزوف، حسب المتحدث في الوزارة، فيما نفى الجانب الأوكراني قيام الزوارق المذكورة بدخول المياه الروسية واصفاً التصرف الروسي بالاعتداء، ليتم بعدها إعلان حالة الطوارئ في البلاد.
تبعاً لهذه الحادثة، بدأ الجانب الأوكراني باتخاذ بعض الإجراءات عسكرية الطابع، على الحدود البرية والبحرية مع روسيا الاتحادية، بالاضافة إلى إعلان حالة الطوارئ في البلاد، بالرغم من عدم قيام الجانب الروسي بأية تحركات عسكرية برية أو بحرية تستدعي ذلك.
احتواء الفعل ورد الفعل
يبدو واضحاً أن الجانب الروسي لا يريد الدخول في سلسلة الفعل ورد الفعل مع تلك القوى والدول التي تدفعها الولايات المتحدة إلى احتكاك معها، استناداً لفكرة عدم التعرض للنتائج، بل معالجة الأسباب المتمثلة أساساً بتبعية البنية السياسية الحاكمة الأوكرانية شبه التامة للولايات المتحدة، وهو ما أكدته المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، بالقول: إن الرد بالمثل على كل قرارات كييف ليس مناسباً.
أما إذا نظرنا للأمر من ناحية توازن القوى، فهنالك فرق واضح في القوى والإمكانات العسكرية لصالح روسيا، مع قوات برية متواجدة أصلاً على الحدود الغربية، تناظراً مع نظيراتها التابعة لحلف الناتو الأمر الذي لا يولد أية حاجة لتحريك أية قوات.
محاولة إحياء بؤرة التوتر القديمة الجديدة
ينبغي التنويه إلى نقطة أساسية، تتمثل بأن بحر آزوف خاضع لروسيا وأوكرانيا فقط من الناحية القانونية، نظراً لعدم وجود دول أخرى تطل عليه، ما يحجّم من إمكانية تحرك قوات عسكرية غير تابعة للدولتين المذكورتين في هذا البحر، الذي يتصل بدوره مع البحر الأسود عبر مضيق كيرتش التابع لروسيا كلياً.
إن الحادثة المذكورة تشير إلى بعض النقاط والقضايا الهامة التي يمكن تلخيصها بما يلي:
أولاً: إنَّ دولة بوزن أوكرانيا لا تسطيع القيام بأيةِ إجراءات أو تحركات عسكرية ضد دولة بوزن روسيا دون إيعاز من الولايات المتحدة، في حالة قد ينتج عنها حالة توتر على الحدود الروسية المباشرة، ودفعها إلى القيام بردات فعل غير محمودة العواقب، وتبدأ في النهاية حملة إعلامية جديدة، في محاولة شيطنة روسيا وتقديمها كرعب سيجتاح أوروبا. كما تعزز هذه الفكرة المفاوضات الجارية بين القيادة الأوكرانية وواشنطن لنشر قاعدة عسكرية أمريكية في أوكرانيا.
ثانياً: إن أحد أهم الأهداف غير المعلنة لهذه الحادثة يتمثل بدفع الأوروبيين إلى اتخاذ موقفٍ معادٍ لروسيا دفاعاً عن أوكرانيا عبر القنوات الإعلامية والدبلوماسية، وهو ما أكده وزير الخارجية الألماني السابق، زيغمار غابرييل، بالقول: إن أوكرانيا حاولت جرّ ألمانيا إلى الحرب في الحادث الذي وقع الأسبوع الماضي في مضيق كيرتش في البحر الأسود، وهو الأمر الذي على ما يبدو لم يتحقق، وذلك نظراً للمواقف الأوروبية الداعية إلى ضبط النفس، والتي كان آخرها دعوة ميركل إلى تشكيل لجنة رباعية لتقييم وحل المشكلة.
ثالثاً :إن الحادثة المذكورة هي في الوقت نفسه محاولة من القوى الحاكمة في أوكرانيا للتملص من القضايا الإشكالية الداخلية المتمثلة بالواقع الاقتصادي والاجتماعي السيء جداً، خصوصاً بعد سحب الجانب الروسي لتسهيلاته الاقتصادية لأوكرانيا إثر تحالفها المباشر مع الولايات المتحدة ضدها.. بالتالي، هي محاولة لتوجيه الرأي العام الأوكراني الداخلي نحو مشكلة خارجية مفتعلة مع روسيا، خصوصاً مع اقتراب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأوكرانية، ومع الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها أوكرانيا احتجاجاً على الأوضاع المعيشية ورفع أسعار الوقود. إذ اعتبرت زاخاروفا أنّ محاولات تشبث الرئيس الأوكراني، بيترو بوروشينكو، بالسلطة تجرُّ أوكرانيا إلى مغامرة قد تؤدي إلى تداعيات كارثية.
محاولة فاشلة
إن توتير تخوم الأعداء الإستراتيجيين للولايات المتحدة هو توجه عام تتبناه أمريكا خلال المرحلة الحالية، في محاولة لإطالة أمد الأزمات بهدف تأجيل انفجار أزمتها، بالتالي، يمكن أن نشهد بعض الاستقرار في تلك النقاط التي لا تعتبر متاخمة مباشرةً لروسيا والصين، ولكن لا نستبعد حدوث مزيد من التوتر في تايوان وكوريا وأفغانستان وأوكرانيا، وذلك نظراً لعدم قدرة الولايات المتحدة الاشتباك على طول الخارطة العالمية، لكن تبدل التوازنات الجاري اليوم، وصعود قوى تلجم مشروع التوتير الأمريكي سيعيق هذه العملية، وهو ما يعززه السلوك الروسي بالتعامل مع الحادثة المذكورة وغيرها من الملفات.