درس من النيل والياسمين
بين شذى الياسمين التونسي وتدفق مياه النيل وشائج عميقة، وكان أبرز تقاطعات عبق الياسمين وهدير النيل خاصية طبعت ثورتي الشعبيين التونسي والمصري.
وعند مراجعة قريبة لا تتعدى مسافتها الزمنية شهوراً معدودة، يقف المرء أمام خاصية ناصعة طبعت هاتين الثورتين، وعبرت عن ذاتها في ان شكل الصراع مع سلطة بن علي في تونس وسلطة مبارك في مصر جاءت معبرة عن جوهر التناقض، والملايين التي احتشدت في ميدان التحرير في القاهرة وفي ساحات تونس عرفت بصوره عميقة أن مصالح الشعب واحدة في مواجهة سلطة القهر والإذلال والنهب والتبعية لخطط الإمبريالية والصهيونية.
لقد دخل في وعي جموع الكادحين في الدولتين أن نهب الطغمة الفاسدة هو سبب جوع الملايين وفقرهم، وهو سبب البطالة الواسعة المتزايدة دوماً، وأدركت تلك الجموع طرائق تزوير إرادتها وتسلط أجهزة الأمن التي أعدت ودربت على مختلف صنوف التعذيب الجسدي والقهر النفسي.
لقد لعبت التركيبة السكانية دورها في بروز الشكل المنسجم مع المضمون وسدت السبل أمام تلك الأجهزة وفشلت في التأسيس للفتن وتغذية علاقات التخلف كما سدت الدور أمام المرتزقة وتجار السياسة.
لقد برهنت وقائع الثورتين أن الوعي الاعتيادي قد توصل إلى معرفة عميقة هي أن وطنها ومصالحها تواجهها طغمة مالية محدودة العدد ومعزولة وقد تكونت تلك الطغمة عبر عشرات السنوات وأن أسرة مبارك وأسرة بن علي تقفان على رأس تلك الطغمة، ولم يسعف سلطة مبارك ولاء مفاصل الأجهزة الأمنية التي بدأ انهيارها مع الأيام الأولى للثورتين.
لقد فشلت كل القوى التي حاولت التخريب الاجتماعي، وفشلت قوى السلفية التي تلاقت مع مفاصل الأجهزة الأمنية في التأسيس للفتن الاجتماعية التي جربوا إحداثها مراراً وتكراراً.
إن التغيير في مصر وتونس اعتمد على وحدة وطنية اتسمت بوعي طبقي عام وشامل تمركز على الفساد وخطره اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وكان مضمون الوعي معرفة أن طغمة مالية تنهب وتنشر الفساد وانعكس تأثيرها في الانهيار السريع لحزب مبارك، وحزب بن علي في تونس. وكان تأثيره واضحاً في الموقف الذي اتخذه الجيش التونسي والجيش المصري. ومن البدهي أن نقول إن أجهزة مبارك وسلطته فشلت في محاولات التخريب السياسي الذي جرت ممارسته، خلال عشرات السنوات لإضعاف الوحدة الوطنية.
إن الإمبريالية الآن تراهن على قدرتها على التخريب الاجتماعي في سورية، وتسعى جاهدة إلى تقسيم المجتمع السوري على أسس تؤمن مصالحها وتهدم كل حجر في الوحدة الوطنية السورية التي بناها مئات وألوف الوطنيين خلال عشرات السنين.
وفي المقابل فإن تقطيع حبال الإمبريالية الأمريكية والفرنسية وغيرهما يبدأ بخطوات عميقة تخضع مفاصل الفساد للحساب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فذلك يعتبر الخطوة الضرورية للوحدة الوطنية. إن ملايين الشعب السوري على تنوعها تجد الأساس المتين لوحدتها الوطنية في تحقيق فاعل لاجتثاث رموز الفساد الذين تتباين مشاربهم وأدوارهم في إحداث التخريب الاجتماعي. ومن نافلة القول إن المبادرة لمباشرة الإصلاح السياسي تعتبر الركن والضرورة الأخرى والملازمة لضرورة اجتثاث مفاصل الفساد والتي من شأنها تحقيق الأساس المتين لإفشال الفتنة وتكسير أنياب الذئاب الامبريالية.
إن الوقائع الموضوعية تدل على أن وقائع الفساد كان لها دور تخريبي للوعي الوطني واستخدمت تلك الوقائع لأغراض لا علاقة لها بمحاربة الفساد، كما أنها شكلت مادة لتشويه حقيقة التناقضات الاجتماعية، وقد شدد من تأثيرها وضع العلاقات السياسية في ظروف اعتماد وتطبيق قانون الطوارئ.
إن الرادع الحقيقي للتوتير الذي تعمل إدارة أوباما وساركوزي على تأجيجه يكمن في المبادرة السياسية التي تدفع بالإصلاح السياسي والذي اصبح المفتاح لكل إصلاح في سائر الميادين. إن وضع الوطن يتطلب البدء المباشر بالمهام الوطنية السياسية كأساس لإفشال المحاولات الأمريكية في تصعيد التوتر الداخلي. إننا في أيام لا تجدي فيها ردود الفعل ولا المعالجة بالاستناد إلى المنطق الشكلي أو الاستسلام لموضوعات فكرية كاذبة، لكنها تتطلب الفعل الذي سيؤثر في الداخل ويقدم إصلاحاً وطنياً يناقض «إصلاحاً» يطلبه أوباما وساركوزي ويشكل جوهره نسف المصالح والتوجيهات الوطنية التي أصبحت سمة لتاريخ سورية، ناهيك عن ابتغائهما تبعية تنهي دور الدولة الوطنية الديمقراطية وتفرغها من محتواها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي