أربعون عاماً على «نوم» تشي.. والشعوب إلى استيقاظ..
هو القائل: «لا يهمني متى، أو أين، أو كيف سأموت، بل ما يهمني هو أن يبقى الثوار واقفين يملؤون الأرض ضجيجاً، حتى لا ينام العالم بثقله فوق أجساد البائسين والفقراء والمظلومين».. إنه البطل الثوري «إرنستو غيفارا دي لا سيرنا».
ولد «غيفارا» في «الأرجنتين 14/6/1928»، ودرس الطب وتخرج عام 1953، ثم قام بجولة حول أمريكا الجنوبية مع أحد أصدقائه على متن دراجة نارية، فساهمت هذه الرحلة بتكوين شخصيته وإحساسه بوحدة أميركا الجنوبية وبالظلم الكبير الذي تعانيه هذه الدول من الإمبريالية العالمية متمثلةً بالولايات المتحدة الأمريكية التي ستمسي عدوه الأول حتى آخر أيام حياته. لم يتخلَ «غيفارا» يوماً عن حلمه في تحرير الشعوب من نير الاستعمار والإمبريالية، فقاد نضالاً شرساً إلى جانب رفاقه في أمريكا اللاتينية وأفريقيا، إلى أن تم اغتياله على يد الجيش البوليفي بمساعدة مستشاري المخابرات المركزية الأمريكية، أثناء وجوده في بوليفيا لقيادة الثورة هناك، فكان يوم 09/10/1967 آخر أيام حياته المليئة بالفعل الثوري.
التقى بـ«هيلدا» (زوجته الأولى) في غواتيمالا التي سافر إليها عام 1955، وكانت هي من دفعه لقراءة الكراريس الماركسية، سافر بعدها إلى المكسيك فالتقى هناك بـ«راؤول كاسترو» (شقيق فيدل) وأصدقائه الذين كانوا يجهزون للثورة بانتظار خروج «فيديل كاسترو» من سجنه في كوبا، وما إن خرج «فيديل» من سجنه حتى نفي إلى المكسيك، فاجتمع «بغيفارا» الذي قرر عندها الانضمام للثورة الكوبية.
اكتسح رجال الثورة الكوبية «هافانا»، برئاسة فيدل كاسترو، واستمروا في حربهم إلى أن اسقطوا الديكتاتورية العسكرية التي كانت قائمة هناك، مستندين في ذلك إلى دعم مؤيديهم من أهالي المناطق الريفية من جهة، والخطط التي وضعها «غيفارا» من جهة أخرى، وفي تلك الأثناء اكتسب «غيفارا» لقب «تشي» الأرجنتيني، وتزوج من زوجته الثانية «إليدا مارش» بعد أن طلّق زوجته الأولى.
برز «تشي غيفارا» كقائد ومقاتل شرس لا يهاب الموت، وتعدى كونه طبيباً ليصبح قائداً برتبة عقيد وشريكاً لفيديل في قيادة الثورة، ففي حين أشرف «كاسترو» على استراتيجية المعارك، قام «غيفارا» بالتخطيط لها وقيادتها، وأعاد رسم إيديولوجية الثورة على الأساس الماركسي اللينيني، وكان «غيفارا» وراء أدلجة الخطابات التي اشتهر فيها «فيديل كاسترو».
عُيّن مديراً للمصرف المركزي في كوبا، وأشرف حسب بعض المراجع على تخليص الثورة من خصومها، وبناء الدولة، وحين أمسكت الثورة بزمام الأمور وقامت الحكومة الشيوعية أصبح فيها وزيراً للصناعة، وممثلاُ خارجياً، ومتحدثاً باسم كوبا في الأمم المتحدة، وقام «تشي» عبر المناصب التي شغلها بالتصدي لسياسات الولايات المتحدة، ثم عمل (بالاتفاق مع كاسترو) على تأميم جميع مصالح الدولة، كما أعلن عن مساندته لحركات التحرر في كل من: تشيلي، وفيتنام، والجزائر التي احتضنت - عند زيارته لها عام 1965 - ما اتضح أنه الظهور الأخير لـ«غيفارا» على الساحة الدولية، حيث ألقى كلمة أكد من خلالها: «بأنه لا توجد حدود في هذا النضال إلا الموت، ولا يمكننا أن نظل غير مبالين أمام ما يحدث في أي جزء من العالم، إن انتصار أي بلد ضد الامبريالية هو انتصار لنا، تماماً كما أن هزيمة إي بلد أمامها، هي هزيمة لنا»..
وفعلاً لم يطل عمر «غيفارا» السياسي كثيراً، إذ أنه لم يحب الحياة السياسية بقدر حبه للعيش كثائر، فرحل عن كوبا متخلياً عن مناصبه فيها، حيث سعى لإقامة مجموعات «حرب عصابات» في الكونغو، ولكن التجربة الأفريقية فشلت لأسباب عديدة منها: عدم تعاون زعماء الثورة الأفارقة، واختلاف المناخ واللغة، فبقي «غيفارا» يحارب في زائير (الكونغو الديمقراطية) إلى جانب قائد ثورة الكونغو «باتريس لومومبا»، إلى أن ظهر فجأة في بوليفيا ليقود ثورة جديدة هناك.
لم يكن مشروعه في بوليفيا يقتصر على خلق حركة، بل تعدى ذلك إلى التحضير لرص صفوف الحركات التحررية في أمريكا اللاتينية كلها، في مجابهة النزعة الأمريكية المستغلة لثروات دول القارة، لكن لم يتسنّ لـ«تشي» الوقت الكافي لحشد القوى وتجنيد المزارعين والهنود الحمر من حوله، لأنه أجبر على خوض المعارك مبكراً، وقام بقيادة مجموعة من المحاربين هادفاً لتحقيق غاياته، إلى أن ألقي القبض على اثنين من مراسلي الثوار، فاعترفوا تحت قسوة التعذيب بأن «غيفارا» هو قائدهم، فانتشر آلاف الجنود لتمشيط المناطق الوعرة بحثا عنه، وافترق الثوار في الأدغال، وساهمت الظروف الصعبة التي واجهوها من عزلة وضعف، إلى جانب مرض القائد، بتسهيل مهمة الجيش في البحث والمطاردة..
وفي يوم 8 أكتوبر 1967 وفي أحد أودية بوليفيا الضيقة، هاجمت قوات الجيش البوليفي المكونة من 1500 فرداً مجموعة الثوار المكونة من 16 فرداً، واستمر «غيفارا» بالقتال رغم إصابته بجروح في ساقه حتى بعد موت جميع أفراد مجموعته، إلى أن دُمرت بندقيته (م-2)، وفرغ مخزن مسدسه (مما يفسر وقوعه في الأسر حياً)، فألقي القبض عليه ونُقل بعدها إلى قرية قريبة، وبقي حيا لمدة 24 ساعة، ورافضاً تبادل كلمة واحدة مع من أسروه، إلى أن نفذت تعليمات إطلاق النار على «آرنستو تشي غيفارا» يوم 09/10/1967، لتفقد البشرية حالمها الثوري الذي أصبح رمزاً، وبات يمثل أحلام ورغبات الملايين من الأحرار الذين يحملون صوره حول العالم.